كل عمل، مهما كان نبيلًا، إن لم يتسم بالوطنية فهو فعلٌ ناقصٌ؛ هذه ليست عبارة للتأمل والنيل المجاني مما يقوم به أبناء الوطن من تجارب تؤسس للضياع الكبير، والضياع الكبير هنا أقصد به إضاعة الفرصة لخلق جيل يعي ما يُحاك له وبه مِن قِبل ولاة أمره الذين نصّبوا من ذواتهم مدافعين عنه وناطقين باسمه.
الأغلبية الكردية تجد أنّ قرار التعليم باللغة الكردية خاطئ، حسب البيانات والمقالات التي تبناها أو نشرها المثقفون الكرد
وليس غريبًا أن أقارن هنا بين ما كان الأقدمون يقولون به من أن أولى علائم عدم استقلالية الشخص أنه ينمو ويعيش وهو لم يختر من كل ما وجد نفسه محاطًا به شيئًا، بدءًا من اسمه وليس انتهاءً بقوميته، ولأننا الآن نمرّ بظرف استثنائي أبسط ما يمكن أن يُطلق عليه أنه حرب بقاء، وامتحان إنسانية ووطنية الناس، وقد يُشبهه آخرون بالمستنقع، وهنا لا بد من الحديث عن مشروعية الصيد في المياه العكرة، ذلك من باب كسب واستغلال الظروف لتحقيق المآرب التي حتى وإن كانت حقوقًا مشروعة فإن محاولة اصطيادها وتحقيقها على كتف الدم والخراب يفقدها شرعيتها.
بناءً على ما سبق أستطيع الحديث عن تجربة الحكم الذاتي ونتائجها الآنية والمستقبلية وفق قوننة الأمر الواقع وفرضه تحت قوة السلاح، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تسمية ما تمَّ بسط اليد عليه بـ”كونتون الجزيرة” ووضعه تحت سلطة الإدارة الذاتية في الأساس يحمل إشكالية كبيرة، لأن قانونية وشرعية ذلك يجب أن تُمنح/تؤخذ من الحكومة المركزية، وفي ظل غياب هذه المركزية يكون كل ما اقتُطِعَ ضربًا من التعدي الفاقد لأدنى مقومات الأحقية، فضلًا عن الديمومة لأنه من الواضح أن خرائط سياسية واجتماعية وحتى جغرافية قد تتغير كثيرًا وِفقًا للتجاذبات والتداولات التي تعصف بالبلاد.
وهنا أذكر أن أحد الأصدقاء الكورد قال بكثير من الأسى: “هذه ليست روج آفه بل هي روج فاله”، مشيرًا إلى أن ما يُطلق عليه “كوردستان الغربية” صارت كوردستان الفارغة، وبعيدًا عن التسميات فإن المثقف الكوردي بات يعي ما تنتجه ممارسات فئة معينة من الساسة الأكراد بحق المنطقة ككل من كوارث مستقبلية؛ على اعتبار أن الوضع الكارثي الحالي هو وضع عام ولا أحد خارج أتونه حتى المتواجدين في مناطق نفوذ النظام “الآمنة”، وبنظرة سريعة نجد، وبدون عناء، أن نسبة المهاجرين من شمال شرق سوريا الواقع تحت سلطة الإدارة الذاتية تكاد تفوق مجموع المهاجرين من بقية المناطق إذا ما قسنا ذلك بمنطق النسبة والتناسب.
في ظل كل ذلك وكمتمم لما سبق، يأتي قرار التدريس باللغة الكردية للمرحلة الابتدائية؛ الذي تم تطبيق مناهجه الدراسية لهذا العام، كما لو أنه المسمار الأشد إن لم يكن الأخير في نعش التسلط الفئوي الذي يمارسه الحزب المتهالك عسكريًا وسياسيًا واجتماعيًا، القرار يروّج له مناصروه على أنه حقٌّ واجبٌ للمكون الكردي أصيل الوجود على الرقعة السورية عموما، وبعيدًا عن المواقف السياسية المتضاربة حول مشروعية ما يسعى لتحقيقه بعض الساسة الكرد الخارجين حتى على وحدة الصف والقرار الكردي، بعيدًا عن ذلك أرى أن محاكمة هذه الخطوة منطقيًا هو الأجدى.
وبما أن القرار قد تم إعلانه فمن الإنصاف أن نورد بأن الأغلبية الكردية تجد أنه قرار خاطئ، وذلك يتضح من البيانات والمقالات التي تبناها أو نشرها المثقفون الكرد، وللتأكيد على ما ذهب إليه هؤلاء المثقفون لابد من النظر إلى القرار من زاوية تربوية، ولنتساءل بشيء من المهنية: هل تملك سلطة الإدارة الذاتية الكادر المهني القادر على إدارة مثل هذي الخطوة الكبيرة جدًا؟ هل البُنى التحتية متوافرة أو جاهزة للمباشرة بهذه العملية التي تطمح لتغيير جذري في المنظومة التعليمية “وبشكل مناطقي”؟ هل تؤسس هذه الخطوة لمجتمع مستقر أم إنها تؤدي إلى انهيار المهزوز أصلًا؟ الجواب وبكل ثقة عن كل ذلك هو “لا”.
القرار التربوي ذو طابع سياسي، واستمرارية تطبيقه تعني السير قُدُمًا في مشروع تقسيم المنطقة
إذاً، وبنظرة إلى المستقبل الواضح لهذه الخطوة نحن أمام كارثة تلحق بجيل كردي كامل تتوقف حياته العلمية والدراسية عند نقطة معينة، ما يعني القضاء على مستقبل هذا الجيل، فضلًا عن أن القرار في استمرارية تطبيقه يعني السير قُدُمًا في مشروع تقسيم المنطقة، وهذا واضح وجلي مما يعني أن المنطقة لن تهدأ وستستمر في الغليان الشعبي.
أما للقائلين بأن هذا القرار يصب في وعاء الديمقراطية المنشودة، فمن الإنصاف بمكان أن نعرج على أن المكون الكردي موجود وفاعل في ألمانيا وأوروبا، ومع كل ما تتسم به هذه الدول من ديمقراطية فلم نسمع عن مدارس تدرس باللغة الكردية، أو حتى بالتركية لغة المكون الثاني في ألمانيا مثلًا. نعم من حق كل مكون تعلُّم وتعليم لغته وثقافته وتاريخه الحضاري والإنساني، وليس التعلُّم بلغته كبديل عن اللغة الأم التي يتواجد هذا المكون على أراضي الدولة الناطقة بها. تربويًّا وإنسانيًا ينتابني الخوف على مستقبل الجيل القادم الذي سينجرُّ للتعلم بلغة يتم إقرارها بناء على قرار سياسي، لا يملك لا مقومات النجاح ولا الاستمرارية.
المصدر : موقع الترا صوت