حماقة أنْ يتصوّر السوري سلوكاً راشداً ولو لمرة واحدة من نظامهِ، بل أن محاولة تخيّل تلكَ الطفرة الحضارية، سيعد تخيّلاً للمستحيل بذاته، فـ»ثقافة الاستبداد» لا تنتصرُ أبداً لثقافة البلاد، والصلفُ الأمني في الحلول لا يأخذ بما تأتي بهِ العقول، ولهذا فالقتل الجماعي للسوريين لا يقتصرُ على إفناء الأرواح وإذابة الأجساد، ليفيضَ الأمر على كرامته وثقافته وشعوره بأنّه سيدٌ وراعي حضارة تمتدُ في قرارةِ التاريخ، وتساهمُ اليوم في إعطائهِ السبق من كونهِ يعيش أسوأ كارثة في العصر الحديث، وإذا كانَ العالمُ فترةً ـ على ألسنةِ مفكريه ـ دعا إلى وفاق الحضارات بدلَ تصادمها، فإنّ سياسييهِ فعلوا فعلهم بخنقِ آمال الشعوب لمصالحهم وبحجة انتفاء البديل وزهو الإرهاب وترعرع الإسلاموفوبيا، بحيث يتحول المطبخ العالمي للسياسة مطعماً ترتاده شعوبهم وتسند مطامعه ومطامحه تحتَ سندان العقول المتحجّرة واللحى المسيّرة عن بعد، ومطرقةِ الدول القوية والدول العميقة فيها.
بات لسان حال السوريين» ليتها لم تكن» في حين ليتها كانت وكانت، فلا ثورة بلا تضحيات، وانتهازيين وخذلان، ولربّما لم يكن متوقعاً حجم الحرب عليها، ذلك أنَّ الجميع رأى في انتصارها انتصاراً للنموذج الحيّ للثورة، وهذا كانَ سيعني بكلّ الأحوال تدحرج كرة» الدومينو» صوب جميع الأحجار، لم يشأ أحدٌ على تغييرِ الخريطةِ للاستبداد، في حين تغيّرت الشعارات، أو لنقل تخلّصت من تقيتها نحو إعلانيتها، وإذا كان ثمة صدقٌ في هذا فلا أمةٌ عربيةٌ واحدةٌ، ولا لسان الضاد يجمعنا، وإسرائيل ليست عدوتنا ولا فلسطين قضيتنا المصيرية، ذابَ الثلجُ ولم يبن المرج وحسب، بل بانَ الخَراء الذي علكتهُ الأنظمة وأجبرت «مرابعيها» على علكهِ.
وإن كانت الثقافةُ وتمايزات المكونات وفلكلورها إغناءً ودفعاً للمنافسة وقيمة مضافة لتعزيز حسّ المواطنة، ودعم المشتركات، فلا ضير أن تختلفَ الأغاني من ديرة إلى أخرى، أو تتمايز الألبسة أو المناسبات الاجتماعية، وسلوكيات الأكل وتنوعِ المأكولات، لا أجدُ غرابة في تغزل الناقد الفرنسي رولان بارت بسيارة» السيتروين» الوطنية، ولا اعتداد المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي بالسمراء اللافتة أوبرا وينفري، لن أستشهد بالعرب فليس فيهم صادق جلال العظم أو نجيب محفوظ أو الجواهري أو قاسم حداد أو محمود درويش أو زها حديد، إنّما لديهم يخوتهم وأعطياتهم» أعطه/ أعطها كيساً من الدنانير» وانتظر المعجزة انتصاباً كاملاً بلا الحبّة الزرقاء الشهيرة، وستسمعُ في غضونِ أيام خبراً عن تدوير أرصدتك في البنوك (مجرّبة). نحنُ عبادك الطيبون يا الله إما بصرنا بغدنا أو اخسف بنا الأرض ولا تتركنا يتامى.
في العودةِ إلى الثقافةِ: أصدر «وزير الثقافة» السوري وسماهُ ناشطون على وسائل التواصل تندّرا بـ«وزير السخافة» قراراً يقضي بمنع الشعر الشعبي من تحصّل المنصّة الرسمية في محافظة الحسكةِ، ومن المعروف إنّ هذه المحافظة تمثّل خزّان الثروة في سوريا، كذلك بدَت أكثرها من بين المناطق الأخرى هدوءاً ومقارعةً للنظام، وقد كانَ متوقعاً أن تكون الأكثر إقلاقاً لتنوعها قوميا، عربا أكرادا سريانا وآشوريين، ومرّد ذلك لأسباب عدة منها استزلام النظام لحزب العمال الكردستاني المعروف بطبيعته المافيوية، وقدرة استئجاره من قبل بعض القوى المتصارعة على الأرض السورية، كذلك ممارسات بعض الفصائل المحسوبة على الثورة، بحيث غابت الأسباب لصالح النتائج، ما جعل الكثيرين تحت سطوة الخنوع والخوف المزمن إلى تبني فكرة: أن النظام هو الأفضل و«اللي تعرفو خير من اللي ماتعرفو»، فكافأهم النظام بأنّ منع عنهم أداة قيّمة تداولوها وتوارثوها على مرّ الزمن، وشكلّت معرفتهم وثقافتهم، بل لا غرابة إذا قلنا إنّ الشعر الشعبي وهو يبزّ الشعر الفصيح في كثير من أشكاله، كان لسان حالهم ورسائلهم المشفّرة، وحقلاً غنياً في التأثير وفكّ المنازعات في فترة خلَت بين أبناء القبيلة الواحدة، وبين القبيلة وجاراتها من القبائل الأخرى، واليوم تزخر الحسكة بشعراء مجيدين، تحصّلوا العلم، ويعرفون القصيدة من معنى أنّها حالة إبداعية لها أسسها إلى جانب غنائيتها وشفويتها، والقول بمنعها لا يتجاوز كونهُ برميلا آخر من براميل السلطة الاستبدادية التي فكّكت المجتمع السوري وقتلته وشرّدتهُ، وها هي تحاول جاهدة قتل المعنى الحميد في داخلهِ.
إنّ نظاماً كانَ يرى المراكز الثقافية مَكّباً للنفايات الحزبية، لن يرى الثقافة حقلاً حضاريا وتنمويا وتنويرياً للعقول، إذ درجَت عادته، وفي الجزيرة تحديداً، بتعيين من تنتهي صلاحيته في شعب الحزب وفرقه مديراً لمراكز ثقافتها، وهذا ما يدحض أنّ الإجراء الحالي كان من باب» تمكين اللغة العربية» كما يعزو بعضهم، كيف يمكن للمسؤولين الثقافيين والأمنيين الجهلة، الذين لا يميزون بين الفعل المضارع وفعل الأمر، ولا يعرفون ما إذا كان محمد الماغوط ضابط شرطة أو شاعراً، أن يكونوا سدَنة اللغة العربية. أحدُ الجوقة المتنفذة والمسنود من وزارة الثقافة، إبّان تولي المهام من أشخاص قفزوا من ضفة النظام إلى ضفة المعارضة واحتلوا مواقعهم، رفضَ طلباً بافتتاح فرع لجمعية «العاديات» الثقافية بحجة أنّها دينية، مستشهدا بالآية» وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا» وآخر صرّح برغبته بدعوته الماغوط إلى أمسية في القامشلي، في حين كان قد مضى على وفاته أكثر من عشر سنوات، كيف يمكن لهؤلاء أنْ يمكّنوا اللغة وهم بحاجة إلى تمكين حياتهم كليّة.
لا يبدو الأمر نافلاً في وقت تكثرُ في المجازر، غير أنّ إمعاناً ممنهجاً في الإذلال يتجهُ إلى هذه البقعةِ الغنية من الأرضِ السورية، التي أرادوها بقرة حلوباً، ولهذا عندما شحّت السماء وبخلت الأرض في سنوات مضت، تناثر الشعبُ في المحافظات الأخرى، يسكنونَ خياماً من الخيش، وهم بقبائلهم وعشائرهم وحمائلهم، تحوّلوا إلى أجَراء وسخرة في المزارع والمداجن، وأطلق عليهم: «غجر الجزيرة» للشكل المعيشي الذي جمعهم بهذه الفئة!
المصدر: القدس العربي