تهافتُ التّوافِه
في تفسيره لمعنى التّهافتِ في عبارة ” تهافت الفلاسفة ” التي وضعها الإمامُ الغزالي عنواناً لكتابه الشّهير المعروف ، يقول أحد المستشرقين ” أن العقل الإنسانيّ يبحثُ عن الحقيقة ، ويريدُ الوصولَ إليها ، كما يبحث البعوضُ عن ضوء النّهار ، فإذا أبصرَ شعاعاً يشبهُ نور الحقيقة انخدع به ، فرمى بنفسه عليه ، وتهافت فيه ، لأنه كان مُخطِئاً ومخدوعاً بأقيِسَةٍ منطقية ، فيهلك كما يهلكُ البعوض ، وأنّ الغزالي إنما أراد بذلك القول أنّ الفلاسفة قد خُدعوا بأشياء أسرعوا إليها بلا إعمال رويّة فتهافتوا وهلكوا الهلاكّ الأبديّ “.
ذكّرتني بهذا التفسير التصريحات المتلاحقة والمتواترة لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي PYD ، التي يعبّرون من خلالها عن استعدادهم للتفاوض مع النّظام بدون شروطٍ مسبقة ، في تهافتِ من ظنّ أنه عثرَ على الحقيقة بعد طول بحثٍ وانتظار ، فهل هذا هو الجوهرُ الذي نظّر له فيلسوفُهم من داخل سجنه ، أم أنّهم عثروا لدى النظام على قوالب ونماذج جاهزةٍ للأمة الديمقراطية يوزّعها يميناً وشمالاً ، أم أنّهم أنجزوا العصرانية الديمقراطية التي تشدّقوا بها طويلاً ، وباتت الحداثة الرأسمالية على فراش الموت.
ألم توضعْ نظريةُ الأمّة الديمقراطية أصلاً في مواجهة الدّولة القومية ، لاستغلاليّتها وقمعيّتها ، أم أنّ دولةَ بشار الأسد ليست قوميةً ولا استغلاليّة ولا قمعيّة ؟ ذلك لأنّ لونَها الطّائفيّ كافٍ لتبديد كل هذه الصّفات عنها .
أم أن مسارَ الخطّ الثالث الذي ضَحِكوا به طويلاً على البسطاء ، أوشك على النفاذ.
أم أنّ التّنظيرَ شيءٌ والتطبيقَ شيءٌ آخر ، فحيثما كان بالإمكان تحصيل أيّ مكسبٍ فليكن ذلك ، حتى ولوكان بطريقةٍ مخالفةٍ لما نعتقدهُ ، أو نريدُ الآخرينَ أن يعتقدوه فينا.
لاشكّ أنّ ذلكَ ليس بالمَسْلكِ الغريب عن ” جماعةٍ ” تسلّمت مواقع النظام على سبيل الأمانة قبل ست سنوات ، عبر مسرحيّاتٍ متفقٍ عليها ، وقد حان وقتُ إعادتها ، وليكن ذلك عبرَ مسرحية التفاوض أيضاً.
غير أن مايستدعي الملاحظة التجريبية في موقفنا هذا ، هو مدى الانفصام بين النظرية والتطبيق في ممارسات حزب العمال الكردستاني ليس كردياً فحسب ، بل إقليمياً ودولياً أيضاً ، ومن مُنطَلَقِ أنّه على المرء أن يلتزم بكلامٍ جرى على لسانه ، فمابالك عندما يتعلق الأمرُ بنظريّة تدّعي جماعةٌ تبنّيها لها.
إن الانفصام بين النظرية والتطبيق يستدرجنا للمقارنة بين خطابات الحكام وممارساتهم عند تسنّمهم السلطة ، ففي حين تكثر الوعود وتتناثر الشعارات والهتافات عند كلّ خطاب ، يجدُ صاحب السلطة نفسه يسلك ذات طريق خصمه أو عدوه أو منافسه ، بعد أن يصحوَ من سكرته ، وهذا هو حال العمال الكردستاني في الموقف السوري.
فهو فضلاً عن عمالته السّريّة – التي باتت مكشوفةً – لسنواتٍ مع نظام ” الدّولة القومية ” التي يدّعي أنّها سببُ كلّ المشاكل ، يبدي استعداده للجلوس معها ومحاورتها ومفاوضتها من دون أي قيدٍ أو شرط ، فهل هذه هي العصرانية الديمقراطية التي يتبناها أصحاب الخط الأوجلاني ، أم أنهم يسلكون طريق صاحب السلطة في أنّ السياسة فنّ الممكن ، وما كان بالإمكان أفضل مما كان.
لسنوات طويلة كان أصحاب النهج الأوجلانيّ خنجراً مسموماً في ظهر الثورة السورية ، وطنياً وكرديّا ، فهم بذريعة نهجهم الثالث اتخذوا موقفاً محايداً بين النظام والثورة ، بحجة إيديولوجيتيهما القومية ، قبل أن تظهر عمالتهم للنظام في 19تموز2012 ، ويهبّوا لمساعدة النظام الذي كان حينها آيلاً للسقوط.
وبحجة معاداتهم للدولة القومية أيضاً حاربوا الأحزاب الكردية الأخرى ،ودمّروا حتى التيارات المستقلة وغير القومية في الوسط الكردي ، بحيث أمسى مجتمعاً عقيماً.
في كل يوم تتكشف حقائق ربما كانت باديةً للعيان من قبل ، إلا أن محاجّة الآخر بها تحتاج إلى أدلّة ، تأتي تباعاً مع الممارسات العملية لتبرهن على أن الشعارات المرفوعة لم تكن إلا لذرّ الرماد في العيون ، وأن أكثر النظريات “المُطَلسمة” إنما وضعت لخدمة الحكام واستغلال البسطاء ، وهذا هو حال نظرية الأمة الديمقراطية التي ينادي بها حزب الاتحاد الديمقراطيPYD.
فبعد إرهاقه الثورة بحجة مكافحة الإرهاب الذي هو أحد نتائج الحداثة الرأسمالية – حسب نظريتهم – يتوجه الحزب إلى مفاوضة النظام ، وكأنه سوف يعثر لديه على كنز العصرانية الديمقراطية والمجتمع الحرّ اللذين يبحث عنهما.
ربما يتذرع أحدهم بفصائل أو مناطق سورية محرّرة فاوضت النظام ، وعادت إلى حضنه ، أو تمّ تهجيرها لرفضها التفاوض ، أو أن قيادات الثورة تفاوض النظام منذ سنوات في جنيف وأستانة وغيرها ، وهي حجةٌ مردودٌ عليها بأن هذه الفصائل لم تتبنَ إيديولوجية الأمة الديمقراطية ، إنما تبحث عن حقوقٍ دستورية ، وحكم قانونٍ ، ومشاركة في السلطة ، وديمقراطية تقليدية كالتي تتبناها كلّ أمم الأرض ، بينما نظرية الأمة الديمقراطية ترفض كل ذلك ، وتدعو إلى مساواةٍ وحريّةٍ فطريّةٍ محورُها الشّعورُ العاطفيّ بالآخر وعدم استغلاله ، وهذا الفارق بين الواقع والخيال هو الذي دفعَ السّوريون ثمنَه من دمائهم لسنوات في الجزيرة وحلب وعفرين ، ومايزالون يدفعون ثمنه في تل الجاير وجنوب الحسكة و دير الزور ، وربما يدفعون أثماناً مؤجّلة في مناطق أخرى.
إن تهافت العمال الكردستاني وعبر ذراعه السورية PYD على إطلاق التصريحات عن استعدادهم مفاوضة النظام ، أو بالأصحّ دعوة النظام للتفاوض معهم بدون شروطٍ مسبقة ، أو بشكلٍ أدقّ محاولة تعويم هذه العملية وإقناع العامة بها ، هو الدليل ماقبل الأخير على أن الحزب ومنذ نشأته لم يكن سوى أداةٍ لمحورٍ معادٍ لكل شعوب المنطقة بمافيهم الأكراد ، حتى وإن تبنّى بعض شعاراتهم أو ادّعى تبنّيها ، وأن مؤسّسيه أرادوا من تأسيسه دوراً وظيفياً يؤدّيه في خدمتهم على الدّوام.
ومن المعلوم سلفاً أنهم لن يحصلوا على أكثرَ من دورِ ميليشيا تضبطُ من تدّعي أنهم حاضنُتها الشعبية ، وتقوم بأدوارٍ تخريبية خلال المراحل القادمة في خدمة ذات المحور ، وتحت ذات العلم الأصفر.
عبدالله النجار
11/6/2018