كشفت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي“ عن تفاصيل صفقةٍ سريةٍ سمحت للمئات من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وأسرهم بالخروج من الرقة على مرأى من قوات التحالف الخاضعة لقيادة أميركية – بريطانية، والقوات التي يقودها الأكراد الذين يسيطرون على المدينة.
وشملت قافلة المُرحَّلين من المدينة بعض أشهر أعضاء التنظيم، وعشرات المقاتلين الأجانب بالرغم من تأكيد الأطراف المعنية سلفاً على عدم السماح لهم بالمغادرة أحياء.
وانتشر بعض المُرحَّلين في جميع أنحاء سوريا، حتى أنهم وصلوا إلى أبعد من ذلك وذهبوا إلى تركيا.
كيف كشف السر؟
أبو فوزي، سائق الشاحنة التي حملت المُرحَّلين، أحد الذين اطلعوا على هذه الصفقة القذرة، حسب وصف “بي بي سي“، بعدما كان يظن أنَّ المهمة التي. طلبت منه لقيادة شاحنة ستكون مجرِّد مهمةٍ تقليدية سينتهي منها.
ويقود أبو فوزي شاحنةً تسير على 18 عجلة عبر بعض أخطر الأراضي في شمال سوريا المُتَمَثِّلة في جسورٍ مُدمَّرة، ورمال صحراوية عميقة، حتى أنَّ القوات الحكومية وما يسمى بمقاتلي تنظيم داعش لا يقفون في طريق توصيل الشحنات لخطورته.
ولكن في هذه المرة، كان من المُقرَّر أن تكون شحنته حمولةً بشرية. إذ أراد تحالف قوات سوريا الديمقراطية، الذي يضم مقاتلين أكراداً وعرباً معارضين لتنظيم داعش، منه أن يقود شاحنةً من المنتظر أنَّ تحمل مئات الأسر النازحة بسبب القتال من بلدة الطبقة المُطلَّة على نهر الفرات إلى مخيمٍ آخر أبعد في ناحية الشمال.
وكان من المُقرَّر أن تستغرق هذه المهمة ست ساعات، كحدٍ أقصى، أو على الأقل هذا ما قيل له.
ولكن حين جهَّز هو وزملاؤه السائقون قافلة الشاحنات في وقتٍ مبكر من يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول 2017، أدركوا أنَّهم تعرَّضوا للكذب، واكتشفوا أن المهمة لن تستغرق 6 ساعات، بل 3 أيام من القيادة الشاقة، وشحن حمولةٍ قاتلة تضم مئات من مقاتلي تنظيم داعش وأسرهم وأطناناً من الأسلحة والذخائر.
ووُعِد أبو فوزي وعشرات السائقين الآخرين بالحصول على آلاف الدولارات لأداء هذه المهمة، شريطة أن تظل سراً.
وتمَّت الصفقة التي تقتضي السماح لمقاتلي تنظيم داعش بالخروج من الرقة، التي أعلنوها عاصمةً للخلافة بحكم الأمر الواقع، بترتيبٍ من مسؤولين محليين.
وجاء ذلك بعد 4 أشهر من القتال الذي ترك المدينة مُدمَّرةً تماماً وشبه خالية من الناس. ومن شأن ذلك أن يُنقذ أرواحاً، ويُنهي القتال. إذ ستُنقَذ حياة المقاتلين العرب والأكراد والمقاتلين الآخرين المعارضين لداعش.
ولكنَّ ذلك مكَّنَ أيضاً مئات من تنظيم داعش من الفرار من المدينة. وفي الوقت نفسه، لم يكن التحالف الخاضع لقيادةٍ أميركية – بريطانية، ولا قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف، يريدان الاعتراف بدورهما في الصفقة.
فهل أطلقت الصفقة، التي كانت بمثابة سر الرقة القذر، تهديداً على العالم الخارجي في ظل تمكين مُسلَّحين من الانتشار في جميع أنحاء سوريا وخارجها؟
صحيحٌ أنَّ جهوداً كبيرة بُذلت لإخفاء هذا السر عن العالم. ولكنَّ هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي تحدَّثت إلى عشراتٍ من الأشخاص الذين كانوا على متن الشاحنات، أو لاحظوها، وإلى الرجال الذين تفاوضوا على الصفقة.
خارج المدينة
في ساحةٍ مُشحَّمة بمدينة الطبقة، وتحت نخلة تمرٍ، كان هناك ثلاثة صبية مشغولون بالعمل في إصلاح مُحرِّك شاحنة، ومُغطون ببقعٍ من زيت المحركات. فيما انتصب شعرُهم الأسود المُشحَّم.
وكانت مجموعةٌ من السائقين توجد بالقرب منهم يتوسطهم أبوفوزي الذي كان يرتدي معطفاً أحمر ساطعاً يطابق لون شاحنته المُحبَّبة إليه ذات الـ18 عجلة.
كان من الواضح أنَّه شيخ السائقين، وسرعان ما عَرَضَ علينا شاياً وسجائر. وفي البداية، قال إنَّه لا يريد التحدُّث ولكن سرعان ما غيَّر رأيه.
لقد كان غاضباً هو وبقية السائقين. إذ مرَّت أسابيع منذ أن عرَّضوا حياتهم للخطر في رحلةٍ أتلفت بعض المحركات وكسرت بعض محاور السيارات، ولم يتقاضوا أجورهم إلى الآن. وقال إنَّها كانت بمثابة رحلةٍ إلى الحجيم.
وأضاف: “كنَّا خائفين منذ لحظة دخولنا الرقة. كان من المفترض أن ندخلها مع قوات سوريا الديمقراطية، ولكننا ذهبنا وحدنا. وفور دخولنا، شاهدنا مقاتلين من تنظيم داعش حاملين أسلحتهم ومرتدين أحزمتهم الانتحارية. لقد نصبوا كميناً مفخخاً حول شاحناتنا. وإذا حدث أي خطأ في الصفقة، لفجَّروا القافلة بأكملها. حتى أطفالهم ونساءهم كانوا يرتدون أحزمة انتحارية”.
وكانت قوات سوريا الديمقراطية الخاضعة لقيادة كردية قد طهَّرت الرقة من وسائل الإعلام كي لا يُبثَّ هروب تنظيم داعش عبر التليفزيون.
عددهم
وأعلنت قوات سوريا الديمقراطية أنَّه لم يتمكَّن سوى بضعة عشراتٍ من المقاتلين من مغادرة المدينة، وجميعهم من السكان المحليين.
ولكنَّ أحد سائقي الشاحنات أخبرنا أنَّ ذلك ليس صحيحاً.
وقال: “اصطحبنا نحو 4 آلاف شخصٍ من بينهم نساءٌ وأطفال في سياراتنا وسيارات التنظيم. حين دخلنا الرقة، كنَّا نظن أن عدد الأشخاص الذين سنحملهم يبلغ 200 شخص، ولكنني حملت في شاحنتي وحدها 112 شخصاً”.
وقال سائقٌ آخر إنَّ طول القافلة كان يتراوح بين ستة كيلومتراتٍ وسبعة كيلومترات، وكانت تضم نحو 50 شاحنة، و13 حافلة، وأكثر من 100 سيارة تابعة لتنظيم داعش. وكان بعض مقاتلي داعش المُلثَّمين يجلسون بتبجُّحٍ على أسطح بعض السيارات.
أسلحتهم
وأظهرت لقطاتٌ مُصوَّرة سراً أُرسِلَت إلينا شاحناتٍ تسحب مقطوراتٍ مكتظة برجالٍ مُسلَّحين. ومع أنَّ الاتفاق كان يسمح باصطحاب الأسلحة الشخصية فقط، أخذ مقاتلو داعش كل ما يمكنهم حمله. إذ كان هناك عشر شاحناتٍ محمَّلة بأسلحة وذخائر.
وأشار السائقون إلى شاحنة بيضاء قيد الصيانة في زاوية الساحة. وقال أبوفوزي: “كُسِر محورها بسبب وزن الذخيرة”.
لم يكن ذلك مجرد إجلاء بل كان هجرةً لما يُسمَّى بتنظيم داعش.
ولم تكن قوات سوريا الديمقراطية تريد أن يبدو الانسحاب من الرقة وكأنه هروبٌ إلى النصر. إذ نَصَّ الاتفاق على عدم إشهار راياتٍ أو لافتاتٍ من القافلة في أثناء مغادرتها المدينة.
وكان من المفهوم كذلك أنه لن يُسمح للمقاتلين الأجانب بمغادرة الرقة أحياء.
فبالعودة إلى مايو/أيار 2017، نجد أن وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس وصف محاربة تنظيم داعش بأنها حرب “إبادة”.
وقال عبر محطة تلفزيونية أميركية آنذاك: “هدفنا هو ألا ينجو المقاتلين الأجانب من القتال للعودة إلى ديارهم في شمال إفريقيا وأوروبا وأميركا وآسيا وإفريقيا. لن نسمح لهم بذلك”.
بيد أن مقاتلين أجانب، ليسوا من سوريا أو العراق، تمكَّنوا كذلك من الانضمام إلى القافلة، وفقاً لما ذكره السائقون. وفسَّر أحدهم ذلك قائلاً: “كان هناك عددٌ كبيرٌ من الأجانب من فرنسا وتركيا وأذربيجان وباكستان واليمن والسعودية والصين وتونس ومصر”.
وذكر سائقون آخرون جنسياتٍ مختلفة.
التحالف يعترف
وفى ضوء التحقيق الذي أجرته بي بي سي، اعترف التحالف الآن بدوره فى الاتفاق الذي سمح لنحو 250 مقاتلاً من تنظيم داعش بمغادرة الرقة مع 3500 فردٍ من أفراد أسرهم.
وقال العقيد ريان ديلون المتحدث باسم عملية “العزم الصلب” التي يخوضها التحالف الغربي ضد داعش: “لم نكن نريد مغادرة أي شخص”.
وأضاف: “ولكنَّ صميم استراتيجيتنا خاضعٌ خضوعاً تاماً لقادة محليين على الأرض. إذ يتعلَّق الأمر بالسوريين، فَهُم الذين يقاتلون ويموتون، وهم الذين يتخذون القرارات المتعلقة بالعمليات”.
وبينما كان أحد ضباط القوات الغربية حاضراً في المفاوضات، لم يؤدوا “دوراً نشطاً” في المناقشات. ومع ذلك، يؤكِّد ديلون أنَّه لم يتبق سوى أربعة مقاتلين أجانب، وهم محتجزون الآن لدى قوات سوريا الديمقراطية.
وفي أثناء مغادرتها المدينة، مرَّت القافلة عبر حقول قطنٍ وقمحٍ مروية بعناية في شمال الرقة. ثم ظهرت الصحراء بدلاً من القرى الصغيرة بعدما تركت القافلة الطريق الرئيسي واتجهت إلى مساراتٍ عبر الصحراء. وكان من الصعب على الشاحنات السير في هذه الطرق، ولكنَّ الأمر كان أصعب بالنسبة للسائقين.
إذ رَفَع أحد أصدقاء أبي فوزي كُمَّ سترته، فظهرت تحته حروقٌ على جلده، وقال: “انظروا إلى ما فعلوه هنا”.
وذكر أبوفوزي أنَّه كان هناك ثلاثة أو أربعة أجانب مع كل سائق، وكانوا يضربونه وينعتنونه بأسماء مثل “كافرٍ” أو “خنزير”. وقال السائقون إنَّهم ربما كانوا يساعدون المقاتلين على الفرار، ولكنَّهم تعرَّضوا للضرب والإهانات والتهديد طوال الطريق.
وقال: “قالوا لنا: “أخبرونا حين تُعيدون إعمار الرقة لأننا سنعود” بنبرةِ تحدٍ وعدم اكتراث. واتهمونا بطردهم من الرقة”.
وأضاف أبوفوزي أنَّ مقاتلة أجنبية هدَّدَته ببندقيتها الكلاشنيكوف.
في الصحراء
لم يشعر محمود الذي يمتلك متجراً في إحدى البلدات الواقعة ضمن مسار القافلة التي تقل الداعشيين بخوفٍ كبير عند رؤيتها.
وكانت عقارب الساعة تُشير إلى نحو الرابعة عصراً حين مرت قافلةٌ تابعة لقوات سوريا الديمقراطية ببلدته شانين، وأُمِر الجميع بدخول منازلهم.
وقال محمود: “كُنَّا هنا حين توقفت سيارةٌ تابعة لقوات سوريا الديمقراطية وقيل لنا إنَّ هناك اتفاق هدنةٍ بينهم وبين داعش. وكانوا يريدون منَّا إخلاء المنطقة”.
صحيحٌ أنَّ محمود ليس من أنصار تنظيم داعش، ولكنه لم يستطع أن يضيع فرصة عمل، حتى لو كان بعض الزوار المفاجئين البالغ عددهم 4 آلاف شخص الذين مروا بقريته مدججين بالأسلحة.
وكان هناك جسرٌ صغير في القرية بمثابة عُنق الزجاجة الذي خرج منه مقاتلو داعش وذهبوا إلى التسوق. فبعد أشهرٍ من القتال والاحتماء في المخابئ، كانوا شاحبين وجوعى. وقال محمود إنهم دخلوا متجره واشتروا كل البضائع.
وأضاف: “أمرني مقاتل تونسي بعينٍ مفقوءةٍ بأن أخاف الله، وسألني بصوتٍ هادئ جداً عن سبب حلق لحيتي، وقال إنهم سيعودون مرةً أخرى لتطبيق الشريعة مجدداً. قلت له إنه ليست لدينا مشكلة مع قوانين الشريعة، فجميعنا مسلمون”.
لقد اشتروا كل ما وقعت عليه أيديهم من شعرية سريعة التحضير، وبسكويت، ومُحمَّصات.
وتركوا أسلحتهم خارج المحل. وكانت المشكلة الوحيدة التي واجهها محمود حين لمح ثلاثة أشخاصٍ منهم بعض السجائر، والتي تُعد محظورةً من وجهة نظرهم، ومزَّقوا الصناديق.
وقال: “لم يسرقوا أي شيء على الإطلاق. ولم يكن هناك سوى ثلاثة محتالين، حتى أنَّ بعض مقاتلي داعش الآخرين طاردوهم”.
وأضاف أنَّ مقاتلي داعش دفعوا ثمن البضائع التي أخذوها.
وأردف: “أفرغوا المحل من البضائع. لقد صُعقت من أعدادهم. وسألني كثيرون عن الأسعار ولكنني لم أستطع الرد عليهم لانشغالي الشديد بخدمة آخرين. لذا تركوا المال على مكتبي من دون أن أطلبه منهم”.
أوفوا بفواتيرهم
وبالرغم من سوء المعاملة التي عانوها، اتفق سائقو الشاحنات مع محمود في أنَّ داعش أوفى بفواتيره حين تعلَّق الأمر بالمال.
وقال أبو فوزي مبستماً: “قد يكون أعضاء تنظيم داعش مرضى نفسيين مهووسين بالقتل، ولكنهم أمناء دائماً في الأمور المالية”.
ويتضمَّن شمال القرية مساحةً طبيعيةً مختلفة. إذ يوجد جرارٌ واحدٌ يحرث حقلاً ويُثير مزيجاً من الغبار والرمال في الهواء يمكن رؤيته من على بُعد أميال. وكان هناك عددٌ أقل من القرى حيث سعت القافلة للاختباء.
ففي قرية مهند الصغيرة، فر الناس مع اقتراب القافلة خوفاً على حياتهم ومنازلهم.
ولكن فجأةً، اتجهت السيارات جهة اليمين، وتركت الطريق الرئيسي لتنتقل إلى مسارٍ صحراوي.
وقال مهند: “كانت هناك سيارتان من طراز هامفي في مقدمة القافلة، إذ كانتا تُنظِّمان السير ولم تسمحا لأي شخصٍ بتجاوزهما”.
ومع اختفاء القافلة في سديم الصحراء، لم يشعر مهند بارتياحٍ فوري. إذ قال كل من تحدَّثنا إليهم تقريباً إنَّ مقاتلي داعش هدَّدوهم بالعودة، وكانوا يُمرِّرون أصابعهم على أعناقهم (في إشارةٍ إلى الذبح) في أثناء مرورهم على أهل القرية.
وقال مهند: “كنا نعيش في إرهابٍ على مدار السنوات الأربع أو الخمس الماضية”
وأضاف: “سيستغرق التخلُّص من هذا الذُعر النفسي بعض الوقت. نشعر أنهم قد يعودون إلينا مرةً أخرى، أو سيرسلون إلينا عملاء مستترين. لا نزال غير متيقنين من أنهم ذهبوا للأبد”.
طائرات التحالف تنير الطريق
وعلى طول الطريق، قال الكثيرون ممن تحدَّثنا إليهم إنَّهم كانوا يسمعون أصوات طائرات تابعة لقوات التحالف، وطائرات بدون طيار في بعض الأحيان، بعد مرور القافلة عليهم.
ومن مقصورةِ شاحنته، شاهد أبو فوزي طائرةً حربيةً تابعة لقوات التحالف تُحلِّق وتُلقي بقنابل إنارة لإضاءة الطريق أمام القافلة.
وقال: “حين كان آخر أجزاء القافلة على وشك العبور، حلَّقت طائرة نفاثة أميركية على ارتفاع منخفضٍ جداً، ونشرت قنابل إنارة لإضاءة المنطقة، وبلل بعض مقاتلي داعش سراويلهم من الخوف”.
ويؤكِّد التحالف الآن أنه رغم عدم تواجد عناصره على الأرض، فقد رصد القافلة من الجو.
ووصل أبو فوزي إلى وجهته بعد مرور آخر نقطة تفتيش تابعة لقوات سوريا الديمقراطية، داخل إقليم داعش – وهي قرية بين بلدتي مركدة والصور. وكانت شاحنته مليئةً بالذخائر وأراد مقاتلو داعش أن يخفوها عن الأنظار.
وعندما عاد بأمان أخيراً، سألته قوات سوريا الديمقراطية عن المكان الذي ألقى حمولة السيارات فيه.
فقال: “أظهرنا لهم الموقع على الخريطة ووضعنا عنده علامة كي يستطيع ترامب قصفه في وقتٍ لاحق”.
انتُزِعت حرية الرقة بالدم والتضحية والتسوية. وبناءً على تلك الصفقة، أُطلِقَ سراح مدنيين محاصرين وانتهى الصراع على المدينة. ولن يكون على قوات سوريا الديمقراطية أن تواجه الموت لاقتحام مخبأ آخر لداعش.
لكن تنظيم داعش لم يبق على وضعه طويلاً. فبعد أن تحرَّروا من الرقة، حيث كانوا مُحاصَرين، انتشر بعض أعضاء الجماعة المطلوبين الآن في جميع أنحاء سوريا وخارجها.
المُهرِّبون سعداء
يُنبئ عدد الرجال الذين قطعوا الأسوار وتسلّقوا الجدران ومرُّوا عبر الأنفاق خارج سوريا بزيادة كبيرة في عدد الفارّين. فانهيار الخلافة مفيدٌ لإدارة بعض الأعمال.
يقول عماد، وهو مُهرِّب على الحدود التركية السورية: “في الأسبوعين الماضيين، وصلتنا الكثير من العائلات التي تركت الرقة راغبةً في المغادرة إلى تركيا. وقد أشرفت شخصياً هذا الأسبوع وحده على تهريب 20 عائلة”.
وأضاف: “معظمهم أجانب ولكن هناك سوريون أيضاً”.
ويتقاضى عماد الآن 600 دولار للشخص الواحد و1500 دولار كحدٍ أدنى للأسرة.
في هذا العمل، لا يملك العملاء رفاهية الاستفسارات. لكن عماد يقول إنَّه قد تعامل مع “فرنسيين وأوروبيين شيشانيين وأوزباكستانيين”.
ويتابع: “كان البعض يتحدَّثون الفرنسية، وبعضهم الإنكليزية، والبعض الآخر لغات أجنبية أخرى”.
ويروي وليد، وهو مهرب آخر على امتداد مختلف من الحدود التركية، القصة نفسها.
فيقول: “تدفَّقَت علينا الأسر التي تريد عبور الحدود خلال الأسابيع القليلة الماضية ومن بينهم بعض الأسر الكبيرة، فمهمتنا هي تهريبهم. وقد لجأت إلينا الكثير من العائلات الأجنبية للهرب”.
ومع ازدياد أمن الحدود في تركيا، أصبح العمل أصعب.
ويضيف: “في بعض المناطق نستخدم السلالم، وفي مناطق أخرى نعبر من خلال النهر، في مناطق أخرى نسلك طرقاً جبلية شديدة الانحدار. الوضع بائس”.
يقول وليد مع ذلك إنَّ الأمر مختلفٌ بالنسبةِ إلى كبار الشخصيات في تنظيمِ داعش.
ويضيف: “إنَّ هؤلاء الأجانب رفيعي المستوى لديهم شبكات التهريب الخاصة بهم، وعادةً ما يُهرَّبون بواسطة نفس الأشخاص الذين نظموا وصولهم إلى سوريا، فهم يتعاونون مع بعضهم البعض”.
خبايا المفاوضات
لم ينجح التهريب مع الجميع. فقد كان أبو مصعب حذيفة من الشخصيات الأسوأ صيتاً في الرقة، وكان قائداً للاستخبارات وكان ضمن القافلة التي خرجت من المدينة في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2017.
لكنه يقبع الآن وراء القضبان، إذ تعكس قصته الأيام الأخيرة للخلافة المتداعية.
لا يتفاوض تنظيم داعش أبداً، فهم قتلة بلا رحمة – فهم ذلك العدو الذي يلعب طبقاً لمجموعة مختلفة من القواعد.
على الأقل هذا ما تُبلغنا به الأسطورة.
ولكن في الرقة تعامل تنظيم داعش بطريقةٍ يتعامل بها أي فريق خاسر. فقد اضطُر مقاتلوه للجلوس على طاولة المفاوضات في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2017.
ويقول أبو مصعب حذيفة: “باغتتنا الضربات الجوية لمدة 10 ساعات تقريباً، وقتلوا من 500 إلى 600 شخص، من مقاتلين وأسر”.
أين ذهبوا؟
وتُظهر لقطات من الغارة الجوية التي شنَّتها قوات التحالف على أحد أحياء الرقة في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2017 كارثةً إنسانية خلف خطوط العدو. ووسط صرخات النساء والأطفال، هناك فوضى بين مقاتلي داعش، كما تبدو القنابل قوية وفعّالة على نحوٍ خاص. ويزعم الناشطون أنَّ هناك مبنى كان يضم 35 امرأة وطفلاً قد دُمِّر، وكان هذا كافياً لكسر مقاومتهم.
ويتابع أبو مصعب قائلاً: “بدأت المفاوضات مرة أخرى، بعد 10 ساعات، فأولئك الذين رفضوا الهدنة في البداية عدلوا عن آرائهم، وهكذا غادرنا الرقة”.
وكانت هناك ثلاث محاولات سابقة للتفاوض على اتفاق سلمي، فيما يقود المحادثات الآن فريق من أربعة أشخاص، من بينهم مسؤولون محليون من الرقة. فروح واحدة شجاعة من شأنها أن تعبر الخطوط الأمامية على دراجةٍ نارية لتوصيل الرسائل.
وأضاف: “غادرنا بأسلحتنا الشخصية فقط وطُلِبَ منَّا أن نترك كل الأسلحة الثقيلة وراءنا، لكننا لم نكن نمتلك أسلحة ثقيلة على أي حال”.
والآن، في السجن على الحدود التركية السورية، كشف أبو مصعب عن تفاصيل ما حدث للقافلة بعد مرورها الآمن لأراضي تنظيم داعش.
يقول إنَّ القافلة ذهبت إلى ريف شرقي سوريا بالقرب من الحدود مع العراق، وإنَّ الآلاف قد هربوا.
تركيا
إنَّ محاولة أبي مصعب الخاصة في الهروب كانت بمثابة تحذير للغرب من التهديد الذي ينتظرهم من أولئك الذين أُطلق سراحهم في الرقة.
كيف يمكن لأحد أسوأ قادة داعش صيتاً الهروب من أراضي العدو دون القبض عليه؟
يقول أبو مصعب: “بقيت مع مجموعة قد عزمت على الذهاب لتركيا”.
إنَّ أعضاء تنظيم داعش مطلوبين من قِبَل أي شخص آخر خارج منطقة سيطرتهم المتقلّصة؛ وهذا يعني أنَّ هذا التجمع الصغير مرّ رغماً عنه عبر مساحات من أراضي الأعداء.
يقول أبو مصعب: “لقد استأجرنا مُهرِّباً لنقلنا من المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية”.
ويتابع قائلاً إنَّ الأمور في البداية سارت بشكلٍ جيد، ولكن المهربين لا يمكن الاعتماد عليهم: “فقد تركَنا المُهرِّب في منتصف الطريق، تركَنا وحدنا للدفاع عن أنفسنا في وسط مناطق قوات سوريا الديمقراطية، ومنذ ذلك الحين، توقفنا عن السير كجماعة وتحمَّلَ كلٌ منَّا مسؤولية نفسه”.
كان من الممكن أن يصل أبو مصعب بسلامٍ فقط إذا دفع للشخص المناسب أو ربما لو كان اتخذ طريقاً مختلفاً.
المسار الآخر هو إدلب، غرب الرقة. وقد وجد عددٌ لا يُحصى من مقاتلي داعش وأسرهم ملاذاً هناك. وذهب الأجانب أيضاً إلى هناك – بما في ذلك البريطانيين والأوروبيين الآخرين والذين جاءوا من وسط آسيا. وتتراوح التكاليف بين 4 آلاف دولار لكل مقاتلٍ و 20 ألف دولار للأسرةِ الكبيرة.
المقاتل الفرنسي
أبوبصير الفرنسي هو شاب فرنسي غادر قبل أن يصبح الهرب من الرقة بهذه الصعوبة. وهو الآن في إدلب، حيث يُصرِّح إنه يريد البقاء هناك.
يقول أبو بصير إنَّ القتال في الرقةِ كان مُكثَّفاً، حتى وقت أن غادر: “كنت أحد مقاتلي خط المواجهة، وكنا نشن الحرب بشكل مستمر تقريباً ضد الأكراد، وكانت معيشتنا صعبة. لم نكن نعرف أنَّ الرقة على وشك أن تُحاصر”.
وسط خيبة أمله وقلقه من القتال المستمر وخوفه على حياته، قرَّر أبو بصير أن يغادر لينعم بالسلام في إدلب، حيث يعيش الآن.
وكان أبو بصير جزءاً من مجموعةٍ فرنسيةٍ صغيرة داخل تنظيم داعش، وقبل أن يغادر كان بعض من زملائه المقاتلين قد تلقوا مهمةً جديدة.
هناك بعض الإخوة الفرنسيين من مجموعتنا ذهبوا لفرنسا للقيام بهجمات في ما يسمى بـ”يوم حساب”.
أين الرهائن؟
يقول تقرير “بي بي سي” إن الكثير مخفي تحت أنقاض الرقة، والأكاذيب حول هذه الصفقة كان من الممكن أن تُدفَن بسهولة أيضاً هناك.
فاقت أرقام المغادرين تلك الأرقام التي صرَّح بها شيوخ القبائل المحليين، ففي البداية رفض الائتلاف الاعتراف بحجم الصفقة.
ولا تزال قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد، تؤكِّد، بشكلٍ غير مناسب، أنَّه ما مِن اتفاقٍ هناك.
فلا يوجد حديثٌ حتى عن تحرير الرهائن المدنيين، فلم ينقَل الرهائن من تنظيم داعش إلى أيدي قوات التحالف أو قوات سوريا الديمقراطية.
وعلى الرغم من إنكار التحالف، فقد شارك عشرات المقاتلين الأجانب، وفقاً لشهود عيان، في النزوح.
لماذا أبرم الأكراد هذا الاتفاق؟
وكان الاتفاق على تحرير تنظيم داعش قائماً على الحفاظ على علاقات طيبة بين الأكراد الذين يقودون القتال وبين المجتمعات العربية التي تحيط بهم.
ورمى الاتفاق أيضاً إلى تقليل الخسائر البشرية. فقد تمترس تنظيم داعش بشكلٍ جيد في مستشفى المدينة والاستاد، وأي محاولة لإزاحته من هناك عن طريق مواجهة مباشرة ستكون دموية وطويلة.
الحرب ضد داعش لها هدف مزدوج: أولاً تدمير ما يسمى بالخلافة من خلال استعادة الأراضي، وثانياً منع الهجمات الإرهابية في العالم خارج سوريا والعراق.
رغم أنَّ الرقة لطالما كانت عاصمة فعلية لتنظيم داعش، فقد كانت أيضاً قفصاً، حيث حوصر المحاربون هناك.
لربما استحقت صفقة إنقاذ الرقة هذا العناء، ولكنها تسببت أيضاً في انتشار المسلحين، ممن زادتهم المعارك صلابة، في أنحاء سوريا وخارجها – فالكثير منهم لم يكف عن القتال بعد.
جميع الأسماء الواردة في هذا التقرير مختلفة عن الأسماء الحقيقية.