أدَّى قرار الزعيم الكردي مسعود البارزاني لإجراء استفتاء الاستقلال، على الرغم من الاعتراضات العراقية والإقليمية الغاضبة، إلى نتائج عكسية على نحوٍ مذهل، فبدلاً من أن يؤدي هذا الاستفتاء إلى تمهيد الطريق لإقامة الدولة الكردية، أو تعزيز القوة التفاوضية للأكراد، أدى إلى انقلابٍ مهين في مصير أكراد العراق، وفقاً لما ذكرته صحيفة واشنطن بوست الأميركية.
التطورات الأخيرة التي شهدتها منطقة كردستان العراق، بخَّرت أحلام الأكراد، ومحت من رؤوسهم مشهد رئيسهم الذي ظهر بخطبة انتصارٍ على أحد الجبال، بعد أن سيطرت قواته على مدينة كركوك من أيدي داعش، حيث ظهرت السهول الممتدة خلفه بمنظر خلاب، وتعهَّد بأنَّ العلم الكردي سيكون هو العلم الوحيد الذي يرفرف هنا.
لكن اليوم، يرفرف العلم العراقي على البلدة وعلى مساحاتٍ واسعة من الأراضي المتنازع عليها شمالي العراق. فمدينة كركوك، وحقولها النفطية الثرية، عادت الآن إلى قبضة الحكومة الاتحادية، بينما اندلعت الاشتباكات حينما حاولت القوات العراقية مَد سيطرتها إلى الإقليم أمس الجمعة، 20 أكتوبر/تشرين الأول.
كان الأكراد أنفسهم منقسمين فيما يتعلق بموضوع الاستفتاء، ففي البداية جاء الخلاف حول إجراء التصويت من عدمه، ثم تطور لاحقاً إلى كيفية التعامل مع تبعات التصويت.
والآن بعد سقوط كركوك، زاد الشقاق بين البارزاني الذي يُلقي باللائمة في فقدان المدينة الاستراتيجية على صفقةٍ عقدها جناحٌ من الحزب الكردستاني الرئيس الآخر، الاتحاد الوطني الكردستاني، من أجل السماح للقوات العراقية بالدخول.
حيث تسري المرارة وتبادل التهم مجدداً بين أكراد إقليم كردستان، بعد أن تسلم الجيش العراقي كركوك على طبق من ذهب، ودون مقاومة تذكر، ورفع العلم العراقي على مبنى المحافظة في قلب المدينة المتنازع عليها.
برزاني لم يستمع لأحد
تنقل الصحيفة الأميركية عن محمود عثمان، أحد السياسيين الأكراد المخضرمين والذي كان المفاوض الأساسي مع بغداد في اتفاق حصول الإقليم على الحكم الذاتي عام 1970 بعد حوالي عقد من التمرد قاده والد البارزاني ضد الحكومة المركزية قوله: “كان الأمر سوء تقدير”.
عثمان قام بتحذير البارزاني في اجتماعٍ بعد تحديد تاريخ عقد الاستفتاء، من أنَّ الشعب سيتعرَّض للإحباط لأنَّه لا سبيل للاستقلال وسط هذه الاعتراضات الإقليمية.
وأضاف عثمان، الصديق القديم لعائلة البارزاني: “كان البارزاني حاسماً في أنَّ الاستفتاء ينبغي، ويمكن، أن يُعقَد، وأنَّ وضعاً جيداً وجديداً سينجم عنه، وأنَّهم (المعارِضون) سيتعايشون مع الأمر. ربما كان يظن أنَّ موقف أميركا سيكون مختلفاً، وربما ظنَّ أنَّ إيران وتركيا لن تكونا بهذا القدر من السوء. أو ربما حصل على تقارير مختلفة من مستشاريه. لقد كان تقييمه للأمر مختلفاً”.
وقال عثمان إنَّ “السبب الذي من أجله كان البارزاني حريصاً كل هذا الحرص على عقد الاستفتاء دون تمهيد الطريق له ليس مفهوماً”.
ويظن عثمان أنَّ البارزاني اعتقد أنَّ التصويت سيضيف إلى القوة التفاوضية لكردستان مع بغداد ومع المنطقة عموماً. وأضاف: “لكنَّ العكس صحيح. لقد فكَّر البارزاني في أفضل النتائج الممكنة، لكنَّه لم يفكر في أسوأها”.
ويقول خصوم البارزاني إنَّه كان بحاجةٍ إلى تعزيز شعبيته. ففي عام 2013، مَدَّ برلمان الإقليم فترة ولايته، ومدتها ثماني سنوات، لعامين إضافيين. لكنَّ الانتخابات لم تجرِ بعد، وقالت اللجنة الانتخابية في الإقليم إنَّ التطورات الجديدة تسبَّبت في إيقاف الاستعدادات لإجراء الانتخابات، التي كان من المُقرَّر عقدها في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وكان البارزاني قال إنَّه لن يترشح لإعادة الانتخاب.
كيف فكر حزب بارزاني؟
وتنقل الصحيفة الأميركية عن سياسيٍّ كردي لا ينتمي لأيٍّ من الحزبين الرئيسيين -الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني- والذي لم يرغب في نشر اسمه لأنَّه ينتقد للقيادة الكردية قوله: “كانت هذه آخر محاولة يائسة من قبل الزعيم الكردي لاستعادة الشرعية، عبر اللعب بورقة الاستقلال”.
لكن مسؤولين من حزب بارزاني يرون أن تحرك بغداد كان حتمياً ومسألة وقت فقط، بسبب تعرُّض رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي لضغوط من أجل كبح جماح التوسع الكردي حتى قبل إجراء الاستفتاء.
وقال أحد مسؤولي الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي تحدَّث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الموضوع: “أظن أنَّ ما فعله الاستفتاء هو أنَّه ربما سرَّع تحرُّك بغداد”.
المبادرة الأميركية
وحاولت إدارة ترامب منح القيادة الكردية سبيلاً لتأجيل الاستفتاء، تحفظ به الأخيرة ماء وجهها. فقال أحد المسؤولين الأميركيين إنَّه في مقابل ذلك كان الأكراد سيتلقون خطاباتٍ من الولايات المتحدة وبريطانيا، تعد بتسهيل ودعم تفاوض الأكراد مع بغداد.
وجاء في العرض الأميركي أنَّ واشنطن ستعترف بالحاجة إلى إجراء استفتاء إن لم تتقدم المفاوضات مع بغداد في ظرف عامين.
وقال سعدي بيرة، المتحدث باسم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، أكبر حزب معارض للبارزاني، إنَّه كان قد عاد لتوه من بغداد، عندما طُرِحت مسودة خطاب وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون. وقال بيرة إنَّ أعضاء من حزبه أخبروا البارزاني، بعدما لمسوا مستوى المعارضة للاستفتاء في بغداد، أنَّهم يدعمون المبادرة الأميركية، ولو أنَّ بعضهم كان يرغب في صياغةٍ أقوى للخطاب.
وقال بيرة إنَّ البارزاني قال إنَّه سيُجري الاستفتاء في مناطق سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني على أي حال، إن لم يدعم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني خطوة الاستفتاء. وأضاف أنَّ هذا الأمر كان من شأنه أن يُسبِّب صدعاً لا يمكن تبريره في الإقليم.
وقال هيمن هورامي، أحد مستشاري رئيس إقليم كردستان، إنَّ المبادرة الأميركية كانت جوفاء. وأضاف: “كانوا يعدون بأشياء لا يمكنهم تطبيقها، لأنَّه كانت ستكون هناك معارضة في بغداد. ما الحكمة في ذلك؟ لقد رأينا تلك اللعبة مراتٍ عديدة من قبل”.
ولم يجرِ الاتفاق قط على صيغة الخطاب. وقال مسؤولان أميركيان إنَّ تيلرسون لم يرسل خطاباً قط إلى البارزاني، لكنَّهما لم ينكرا كتابة مسودة للخطاب. وقال أحدهما: “بالطبع، كانت هناك مداولات بين بغداد وواشنطن وحلفاء آخرين، حول السبل الممكنة للمضي قدماً”.
وكشف عثمان أيضاً عن تدخل إيراني، وذلك عندما سافر قاسم سليماني، القائد العسكري الإيراني في العراق إلى عاصمة كردستان العراق، أربيل، قبل الاستفتاء بهدف إقناع البارزاني بالعدول عن موقفه، إلا أن جهوده باءت بالفشل.
الصفقة
وكشفت الصحيفة الأميركية عن لقاء عاجل عقد في بلدة دوكان المطلة على بحيرة دوكان، جمع كلاً من الرئيس العراقي فؤاد معصوم، الذي ينتمي لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، والزعيم بارزاني، عرض فيه صفقةً من شأنها السماح للقوات العراقية بدخول كركوك.
وبحسب أحد الحضور، الذي تحدَّث شريطة عدم الكشف عن هويته حتى يتحدَّث عن هذا اللقاء، فإن البارزاني غادر اللقاء غاضباً.
وقال الحزبان في مؤتمر صحفي مشترك بعد الاجتماع، إنَّهما متحدان، ولن يتفاوضا من جانب واحد. لكنَّ الصفقة كانت قد عُقِدت بالفعل، وفقاً للصحيفة الأميركية.
وقال ملا بختيار، وهو أحد مسؤولي حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، إنَّ اتفاق دخول القوات قد مرّر إلى بغداد عبر “وسيط” رفض تسميته، قائلاً إنَّه قد حاز موافقة الحزب الديمقراطي الكردستاني، وهو ما ينفيه الحزب بشدة.
وقال أحد مسؤولي حزب البارزاني: “لقد طُرِح الأمر بصفته خياراً، لكن لم تجرِ الموافقة عليه. لقد تعهَّدوا بأنَّهم لم يعقدوا صفقةً مع العراقيين”.
وقال بيرة إنَّ الكثيرين من قادة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني لم يعرفوا حتى بتلك الصفقة.
وقال بيرة إنًّ بعض أعضاء حزبه، ممن يطلق عليهم اسم “أصدقاء كركوك” ويقودهم ابن الرئيس السابق جلال الطالباني وأرملته، قد عقدوا الصفقة بشكلٍ سري. واستغلوا فرصة عقد مراسم عزاء لطالباني في بغداد، كي يتناقشوا حول الصفقة مع مسؤولين في العاصمة.
ويحظى حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، تقليدياً، بعلاقاتٍ أقوى مع إيران من علاقاته بحزب البارزاني. وقد حضر سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، والرجل القوي في العراق، مراسم عزاء أخرى لطالباني في مدينة السليمانية والتقى بالأسرة، بينما استمرت المفاوضات السرية.
وقال مسؤولٌ بارز آخر في الحزب الديمقراطي الكردستاني، رفض الإفصاح عن اسمه: “لقد عقدوا صفقةً مع قاسم سليماني”.
وقال بيرة إنَّ الصفقة تسمح بالإدارة المشتركة لكركوك وبقاء قوة من البيشمركة قوامها 700 جندي في المحافظة، إلى جانب قوات الشرطة العراقية المحلية وقوات الأمن الكردية. ومع ذلك، تقضي الصفقة بتسليم الأكراد حقول النفط، والقواعد العسكرية، والقاعدة الجوية، وقواعد الجيش. وأكَّد أحد العراقيين، وهو على اطلاعٍ بالمفاوضات، بند الاتفاق على الإدارة المشتركة في مقابل التسليم، لكنَّه لم يؤكد بند السماح ببقاء البيشمركة.
وقال العراقي إنَّ المجموعة المفاوِضة تقدَّمت بمطالب أخرى، بما فيها رواتب لقوات البيشمركة المختارة، وإعادة فتح رحلات الطيران الدولية إلى السليمانية، لكنَّ بغداد رفضت هذه الشروط.
وقال بيرة إنَّ عقدَ اتفاق كان أمراً ضرورياً لتجنُّب سفك الدماء، في الوقت الذي كان من شأن الضغوط الاقتصادية التي تتخذها دول المنطقة أن تُخضع كردستان، التي تعاني بالفعل من أجل دفع الرواتب.
وقال برهان رشيد، أحد مقاتلي البيشمركة: “لقد خُنَّا كركوك. لقد خُنَّا كردستان”.