خمس سنوات من الكذب المتواصل
قبل أيام صرح هادي البحرة على قناة العربية بأنه منذ بداية مفاوضات جنيف لم تجر أي مفاوضات سياسية لا مباشرة ولا غير مباشرة بين المعارضة والنظام. وأمس صرح منذر ماخوس أن كل ما جرى في جنيف إلى حد الآن ليس مفاوضات بل هو تبادل آراء بين شخصيات المعارضة أنفسهم.
لنعد بالذاكرة إلى الوراء لنكتشف مصيبتنا في تلك الشخصيات التي ربما بعضهم صدق بسذاجة أنه ممكن أن يجلس على كرسي السلطة يوما ما. وبعضهم كان ماكرا ويعلم الحقائق ويخفيها ليستفيد من المنافع التي قدمت له خلال السنوات الماضية. وبعضهم كان مغلوب على أمره لا يملك إلا أن يقول سمعا وطاعة.
قبل خمس سنوات تحديدا تفتقت قريحة المجتمع الدولي على إجراء مفاوضات سلام بين المعارضة السورية والنظام. فكانت مبادرة كوفي أنان التي جمعت القطبين الأمريكي والروسي، وبدأت المفاوضات بين النظام وما أطلق عليهم آنذاك واجهة سياسية للثورة السورية. ولكم أن تتخيلوا أن هذا الكلام مضى عليه 5 سنوات من عمر الثورة مع ما مر بها من آلام ومعاناة ومئات الآلاف الشهداء وملايين المشردين.
يومذاك أصدرت ما سمي مجموعة العمل من أجل سوريا بيانا ختاميا، بعث به الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى رئيسي الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي بتاريخ 5 يوليو/تموز 2012. تضمن البيان 6 نقاط. إحداها ينص على إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية. وأن تمارس هيئة الحكم الانتقالية كامل السلطات التنفيذية. ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، ويجب أن تُشكّل على أساس الموافقة المتبادلة.
بعد عام من مؤتمر جنيف 1 بدأ الغرب يعد الطبخة لجنيف2. ولكن الغريب في الأمر أنه منذ بداية الثورة كانت جلّ التصريحات الغربية، ومعها تصريحات أغلب شخصيات المعارضة، تتمحور حول أنه لا حوار مع النظام في ظل بقاء بشار الأسد في سدة السلطة. وهذا كان المبدأ الأساس الذي أقره الائتلاف بأنه من ثوابته. ثم تحجج وتعلل وتعذر أنه نتيجة للضغوط الغربية عليه غير مبادئه خلال نصف ساعة.
كان الغرب كريما جدا أكثر مما تتخيلوا، فقد منح الائتلاف ملايين الدولارات ليجهز بعض أعضائه أنفسهم لتلك المفاوضات. بل أنفق على مجموعة منهم مؤلفة من 7 أعضاء مبلغ 900 ألف دولار لعمل دورة في طرائق المفاوضات الدولية. ولم يكن ذاك (الكورس) إلا سياحة في اليابان وجزر تايلند فقط. المهم حزم نصف أعضاء الائتلاف (بقجهم) وتراكضوا إلى جنيف2.
آنذاك تابع العالم بأسره الكرنفال الخطابي الذي حضره 33 دولة كبرى ومنظمة عالمية. ولا تتخيلوا حجم (الميديا) والمبالغ التي أنفقت، حتى أنه يقال أنها وصلت إلى 300 مليون دولار. فقد تم حجز أغلى مدينة في العالم بفنادقها ومطاعمها ومطاراتها ومرافقها وعمالها….لذلك المؤتمر. حضرت جميع وكالات أنباء العالم آلاف المحطات الفضائية بجميع لغات العالم. طقطقت الصور كان بمعدل 5000 صورة بأقل من جزء من الثانية. والجميع شاهد الابتسامة الساخرة لخليلة بشار الأسد لونا الشبل خلف وليد المعلم.
اجتمع بعدها الأبطال الصناديد أصحاب الأطقم المزركشة والأحذية الملمعة من المعارضة في فنادق جنيف لمدة أسبوعين، آكلين شاربين نايمين متبضعين… على حساب الدافع الدولي، لكي يضحك عليهم بأنه فعلا يريد تغيير النظام. كانوا يطلون علينا بطلعتهم البهية في القنوات الفضائية 3 مرات يوميا، مع وجبة الفطور ووجبة الغدا ووجبة العشاء. كلام سفسطائي وعلاك مصدي لم يكن يقدم ولا يؤخر، سوى أن غايتهم الخروج أمام الكاميرات. وحين عادوا إلى مرابضهم برروا فشلهم بقولهم: (لقد استطعنا كسر الجليد بيننا وبين النظام، إذ جعلنا وفد النظام يقف دقيقة صمت على أرواح قتلى المعارضة). وبالطبع كان الراعي الدولي ديمستورا يطبطب على فشلهم الذريع بقوله: إن جنيف 2 كان ناجحا جدا؛ ليوهم من يستمع له بأن النظام قاب قوسين أو أدنى من تسليم السلطة. ولم يكن هدفه في الواقع إلا المماطلة والكذب لتمديد مرتبه الشهري.
ثالثة الأثافي أن المعارضة السياسية استمرأت قضية المفاوضات لما لها من منافع مادية جوية وبحرية وبرية. فجرى التحضير بعدها لتغيير أحجار الشطرنج التي ستحضر جنيف 3. بل وصلت الأمور في أحد أيام جنيف 3 أن وقفت 4 معارضات ومعارضين ذكرين يتعاركون فيما بينهم ويتجاذبون المايكرفون كل يريد أن يتكلم أمام الفضائيات.
وهكذا تكرر المشهد والمسرحية الهزلية للمرة الثالثة مع رافقها من كذب ونفاق على الشعب السوري بأن هناك مفاوضات تحصل بين المعارضة والنظام. والجميع كان يعلم مسبقا قبل الحضور والتصريح والكلام الإنشائي والعلاك الفاضي أن اجتماعاتهم تلك لن تتمخض عن أي تقدم في الحل السياسي؛ لأن الأسد لن يتنازل عن كرسيه مهما كلف الأمر، ولأن إيران لن تقبل بقطع الهلال الشيعي الذي يصلها بالبحر الأبيض المتوسط. فكانت المؤتمرات برمتها إضاعة للوقت والمال.
سبع سنوات مضت من عمر الثورة ونحن من مؤتمر إلى مؤتمر ومن لقاء إلى لقاء ومن قمة إلى قمة. فقد عقد 9 مؤتمرات لأصدقاء سوريا في 9 مدن مختلفة. وعقد 68 قمة عربية وغربية للتباحث بالشأن السوري. كما انعقد مجلس الأمن 7 مرات للشأن ذاته، واجتمع أعضاء الأمم المتحدة 11 مرة أيضاً. وانعقد 3 مرات مؤتمر المانحين في الكويت. واجتمعت الجامعة العربية 6 مرات، وانعقد مؤتمر القمة الإسلامي مرتين. أما الاجتماعات الجانبية والتصريحات فهي أكثر من أن تحصى.
وبعد…. في مثل هذا اليوم من العام الماضي فتح الجميع أجهزة تلفزيوناتهم ليسمعوا تصريح بشار الأسد بأنه لم يسمع من قبل بموضوع مرحلة انتقالية أو تنازل عن السلطة مطلقاً.
بعد مضي خمس سنوات على مؤتمرات جنيف الفاشلة ألا يجب أن يخرج بعضهم ليصرحون أنهم يرفضون استكمال هذه المسرحيات الهزلية؟
عبد الرحمن الخطيب