في عصرٍ باتت فيه الميديا تتحكم بأغلبية قرارات العالم، السياسية والاقتصادية ، وحتى بالاتجاهات الفكرية والاجتماعية ، صار من الصعب علينا كأفراد فهمُ طبيعة مايجري ، وأسبابه والنوايا الكامنة وراءه ، الأمر الذي يتطلب مراكز دراسات وأكاديميين ومتخصصين مهنيين ، لتفكيك بناه وإعادة ترتيبها وتركيبها ، بحيث تغدو واضحة المقصد ، ويتيسر فهمها.
مناسبة ذلك هي الصور التي نشرها إعلام حزب العمال الكردستاني ، لجندي أمريكي – قُدّم على أنه قائد عسكري – يزورُ الموقع الذي قصفته المقاتلات التركية الثلاثاء الماضي ، برفقة شاهين جيلو القيادي في الحزب المذكور.
حيث ظهر القائد الأمريكي متأبطاً سلاحه ويده على الزناد ، وكأنه يخشى مَنْ حوله ، في حين بدا ” جيلو ” ورفاقه كصاحب الشكوى الذي يطلب العون والمساعدة.
وتشير غالبية المصادر إلى أن قيادة الحزب كانت على علمٍ بالضربة التركية عبر قنواتها مع النظام ، التي أعلمتها قبل ثلاثة أيام من الضربة العسكرية أن طائرات الاستطلاع التركية صوّرت مقارّها ، بمايوحي أن هناك عملاً عسكرياً محتملاً ، عززته التحركات التركية العلنية على الحدود.
ويعزز أصحاب هذه الرواية أقوالهم بنجاة أعضاء القيادة التي تتمركز في جبل كرتشوك بمافيهم جيلو نفسه ، واقتصار الضحايا على المقاتلين العاديين ، الذين اعترف الحزب بعشرين منهم فقط ، وتكتم على الباقين كعادته منذ تأسيسه.
وأما فيما يتعلق بالاشتباكات التي حصلت في اليوم التالي للضربة الجوية فهناك روايتان متناقضتان يتناقلهما الأهالي هناك ، تتمحور الأولى حول قيام الحزب بالتحرّش بالقوات التركية بغية دفعها إلى قصف المدنيين ، والاستفادة من ذلك ، في تعزيز موقعه كردياً وأمريكياً ، في حين تتحدث الرواية الثانية عن موافقة أمريكية مسبقة لتركيا لقصف مواقع الحزب المذكور بالاتفاق مع أطرافٍ كردية ترى فيه ذراع إيران التي لابدّ من قطعها.
لايمكننا الاستهانة بالخبرات السياسية والإعلامية للعمال الكردستاني ، فالحزب بارعٌ في استخدام التكتيكات ، ولديه أعدادٌ كبيرة من الخبراء الذين استطاع تجنيدهم وتدريبهم سابقاً ، بالإضافة إلى جيش المرتزقة الذي اشتراه خلال السنوات الخمس الماضية ، بالأموال التي أُغدقت عليه ، جرّاء استجراره للنفط والغاز السوريين وتصديرهما ، وهؤولاء سوف يعملون على استمالة الشارع الكردي ، وإظهار الحزب على أنه الحامي الوحيد لهم ، وعليه تُعقد الآمال في تحقيق الحلم الكردي.
وبالعودة ربعَ قرنٍ إلى الوراء ، حيث 15 آب 1985 التي يطلق عليها الحزب في منشوراته مصطلح ” قفزة آب” ، والتي لازال يحتفل بها سنوياً ، ويعتبرها رافعته المعنوية ، ويدّعي أنه من خلالها حوّل الاشتباكات الصغيرة المتفرقة ضدّ الجيش التركي ، إلى حرب تحريرٍ شعبية حسب تعبيره.
فبعد ربع قرنٍ من انطلاق القفزة ، كتب مؤسس حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان في الجزء الخامس من منفستو الحضارة الديمقراطية يقول : فمنطقة ” لولان ” التي اتُّخذت مركزاً لقيادة عمليات الحزب داخل تركيا انحرفت قيادتها نحو اليمين متذرعةً بذرائع ” مازلت عاجزاً عن فهم وجهها الباطني إلى الآن ” ص324 ، و” لازال تأثير هذا الانحراف مستمراً حتى وقتنا الحالي” يضيف أوجلان.
وعمّا كان يسميه الحزب في ذلك الوقت تكتيكات الأنصار للحرب الشعبية ، وكان إعلامه يتغنى بها ليل نهار ، ويمتدح مهارتها وكفاءتها ، يقول أوجلان : دعك من ذلك ….. ” بل لم يكن حتى أي تطبيق بسيط لها قائماً على أرض الواقع” ص325.
ثمّ يتحدث عن مقارّ أخرى تحولت إلى أغوية الحرب التي يصفها ” بالأكثر سفالةً ودناءة ” ص327 ، وانصبّ اهتمام كلّ واحدٍ من القادة الميدانيين على تحقيق مايستطيع من النفوذ والاقتدار لمصلحته الشخصية ، بمافي ذلك التناحر مع آخرَ ندّ ٍ له ، وذلك كله بالطبع على حساب البسطاء والمستضعفين.
كما يتحدث عن هدر الكثير من المقاتلين في عملياتٍ لاجدوى ولامعنى لها. ويضيف في وصف أصحاب التوجه اليميني ” فقد انحطوا لدرجة طعنهم بالعناصر الصادقين المرشحين ليكونوا قواداً ” ص328 ، وقتل المئات من رفاقهم تحت التعذيب بحجة أنهم عملاء.
وختاماً يقول ” ماظهر إلى الوسط لم يكن حرباً شعبيةً أو أنصارية ، بل كان مفهوماً عصاباتياً بدائياً بشتى ممارساته ، إذ كانوا يمارسون التصفية بذات أنفسهم ، دون أن يكونوا تابعين لأي مركزٍ خارجي ” ، أما بضع العمليات التي نفذوها ” فكانوا قد صيروها حجةً بأيديهم للدفاع عن أنفسهم تجاه التنظيم “ص328 ، وبدلاً من أن تكون حرب التحرير الشعبية للدفاع أساساً عن الشعب ، ” فقد تحولت إلى حرب عليه ، واستخدامٍ للقوة ضده ، وإحراز التفوق عليه”.
ولم ينس الإشارة إلى أولئك المنافقين ” المناهضين للثورة ” ، الذين كانوا ينتهزون الثغرات ليتسللوا منها إلى مراكز القيادة “عبر تلفظهم بأكثر الشعارات حدةً ” ص329 ، لينتقموا من ” الكردايتية الحرّة” حسب تعبيره.
ذلك هو غيضٌ من فيض ماكتبه أوجلان في تقييمه لما جرى في قفزة آب ، والتي كان من نتائجها – حسب الحزب – تدمير القرى والبلدات الكردية وقتل الأهالي وتشريد الآلاف.
حصل ذلك ومؤسس الحزب قائمٌ على رأس قيادته ، فمابالكم الآن ؟!
لم يكن القصد هو الحديث عن قفزة آب فليس هنا مناسبتها ، إنما لأخذ العبرة مما يقوم به الحزب الآن ، حيث كثيرٌ مما ذُكر يتم تكراره يومياً في الشمال السوري ، من عفرين ، إلى عين العرب ، وحتى القامشلي.
فعودة الحزب من قنديل بالتنسيق مع النظام وإيران ، وقتاله فصائل الجيش الحرّ ، ومن ثمّ تشتيت شمل الشباب الكردي المؤيد للثورة ، بقوة السلاح ، يتناقض مع ادّعاءات الحزب الثورية.
كما أن عمله كذراعٍ عسكري للولايات المتحدة التي يتهمها الحزب بقيادة المؤامرة الدولية لاعتقال قائده في شباط 1999 ، يتنافى مع مايدّعي أنه نضالٌ ضدّ الحداثة الرأسمالية ، في سبيل العصرانية الديمقراطية.
أما عمله تحت إشراف الروس فهو يعني أن الحزب لم يعد يعبأ بمايقوله قائده المعتقل ، الذي يصف روسيا قائلاً ” أما موقف روسيا فكان ذليلاً أكثر ، حيث أرغمتني على الخروج من موسكو مقابل مشروع التيار الأزرق ، وقرض من صندوق النقد الدولي مقداره عشرة مليارات دولار” ص398.
تجنيد الشباب الكردي ، وزجّه في معارك لاتعنيه ، بذريعة محاربة الإرهاب ، وممارسة القتل والتهجير والتغيير الديمغرافي ، كلها ليست في صالح الكرد ، لاحاضراً ولامستقبلاً.
فهل ننتظر ربع قرنٍ أخرى حتى يطلّ علينا مسؤولٌ آخر من الحزب ، ليعترف بأن ماجرى لم يكن يتوافق مع رؤيتهم ، ويلقي اللّوم على عناصر يمينيّة أخرى؟
أعتقدُ أن العقلاء الكرد يدركون ذلك ، ويتخوفون من نتائجَ مايقوم به الحزب المذكور – التي بالتأكيد لن تكون محصورة ضمن الحدود السورية- والتي يدفعه إليها مشغّله الإيراني ، الذي يعلّق كل أسبوع العشرات من الشباب الكردي على أعواد المشانق.
عبدالله النجّار
حقوقي و كاتب و محلل سياسي سوري مختص بالشأن الكردي