عبدالله النجار
لم يكنْ حزب العمال الكردستاني PKK يعتقدُ أن الأزمةَ السورية – كما يُسميها – سوف تطولُ كلّ هذه المدّة ، وأنها سوف تستهلِكُه وتستنقِعُه ، وربّما ترتشِفُه أيضاً.
جلّ ماكان يحلمُ به هو الانتعاشُ ماديّا ، ريثما يتمكنَ النظامُ من استعادة عافيته ، بعدَ مسْغَبةٍ عصفت به منذ طردهِ من سورية نهاية عام 2002 ، ولذلك تمثّل أولُ طُعمٍ له في عقودِ حمايةِ المنشآت النفطيّة في رميلان .
وحَلُمَ أيضاً بالعودةِ إلى نشاطه المعهود في الساحة السورية ، مع طموحٍ بالسماح له بالتحول إلى حزبٍ مرخصٍ يمثل الأكرادَ السوريين ، ويصادر باقي الأحزاب على السّاحة الكردية ، ويكون لوناً آخر لحزب الله اللبناني.
غير أن النظامُ لم يكن في وارد الاعتراف بأي حزبٍ خارج منظومته العقائدية ، وجلّ ماكان سوف يجودُ به على الـ pkk هو السماح له باستنزاف الكرد السوريين ، واستهلاكهم ، وقمعهم ، مقابل استنزاف تركيا عقاباً لها على مساندتها للثورة السورية ، ومن ثم بيعه مرةً أخرى مقابل تثبيت أركانه.
غير أن مجرى الأحداث خيّب آمال الطرفين ، فلا الثورةُ انتهتْ ، ولا النظامُ استعاد السيطرة على البلاد ، وغرقَ الحزبُ في معاركَ تفوق قدراته على حرب العصابات التي يجيدُها ، اضطّرته إلى سحبِ كل مخزونه من الرّجال القادرين على حمل السلاح من مقاتليه في جبال قنديل بشمالي العراق.
ومع تصاعدِ الأحداث في سورية ، وجدَ الحزب نفسه يغرق رويداً رويداً في أوحالِ النظام ، ولم يعد هناك خطٌ للعودة إلى الوراء ، فواجه الثوارَ وجهاً لوجه – بأمر النظام – أول مرة في رأس العين ، وبرر ذلك في حينها بأن من يقاتلهم إنما هم إسلاميون من بقايا القاعدة.
ومع غضّ الطرف عن انسلاخه من شعاراته التي نادى بها خلال عقود ، إلا أنه رويداً رويداً بدأت العامة تكتشف أن هذا الحزب – ومن ورائه النظام – يريد توريطها في مواجهةٍ مع الشعب السوري الثائر ، ومن ثمّ مع كل شعوب المنطقة ، فتوارى كلّ من كان في وجهه بقيةً من حياء ، وتصدّت للمهمة فئاتٌ من المجتمع لاتمتّ إلى الأخلاق بصلة.
وبين العزف على وتر القومية ، وقتال المتطرفين ، والوقوف في وجه العدو التاريخي تركيا ، استطاع أن يُجند آلاف الشباب في معاركه الخاسرة وإن بدتْ رابحةً لبعض الوقت.
استنفذَ الحزبُ كلّ إمكاناته المادية والعسكرية ، ولم يعدْ في جعبته الكثير ، ولعب على التناقضات ، ودخلَ في كل الأحلاف ، حتّى مع المُتناقِضَين ، بحيث بدا واضحاً أنه لم يعد لديه مبدأٌ يدافع عنه .
انتعشتْ أحلامُه باستلام المواقع من النظام ، ثم بالإدارةِ الذّاتية ، والفدرالية ،غير أن كلّ ذلك لم يبررْ وقوفَه إلى جانب النظام والمليشيات الطائفية الإيرانية ، التي حتى مع قتال الحزبِ إلى جانبها لم تتوقفْ عن إعدام الشباب الكرديّ في إيران.
وأخيراً سقطَ الحزبُ من قائمة الأحزاب الكردية شعبياً ، خاصةً مع التصريح الأخير لجميل بايق الذي أكد فيه عزمهم على الاستمرار في الحرب ضد الدولة التركية ،واتهامه كل مخالفٍ بالعمالة لتركيا ، في إشارة إلى زعيمه عبد الله أوجلان الذي نَقل عنه شقيقُه مطالبتَه الحكومةَ التركية بإيفادِ ممثلين عنها لإعادة حوارات السّلام.
ويعلمُ بايق أن تهديده هذا لن يلاقي التأييد المعهود سابقاً ، خاصةً مع اتّضّاح صورته الحقيقية بالوقوف إلى جانبِ تكتل القوى المدعومة من إيران ضدّ البرزاني في إقليم كردستان العراق.
وفي السّاحة السورية لن تقاتل تركيا الحزبَ ، ولن تمنَحْه هذه الفرصة ، لحشدِ الكرد السوريين خلفَه في مواجهتها ، بل سوفَ تتركه يضمحلُ وينتحرُ في معارك أخرى ، فهي تعلم أن نزوله من الجبال إلى السهول قضى على أسطورته عسكرياً و أخلاقياً.
وحتى إن انتهت الحرب – في غير صالح الـ PKK كما هو متوقع – فلن يعود مقاتلوه مرةً أخرى إلى الجبال ، فالذي جرّب المال والسلطة والتسلّط ، لن يكون في مقدوره العودة مرةً أخرى إلى مغاور قنديل.
التجربة السورية أثّرت على حزب العمال الكردستاني ، وأظهرتهُ على حقيقته البَشعة ، غير أنها سوف تكون آخر التجارب ، مثلما أن تجربة الانقلاب الفاشل في تركيا – التي قصَمت ظهره – ، مهّدت لمرحلةٍ جديدة تتمثل في خشيةِ الشعوب على مستقبلها ، من أيّة مقامرةٍ غير محسوبةِ العواقب ، في ظلّ توحّشٍ غربي يترصدُ المنطقةَ برمتها ، ليحرقَها بالحروب الأهليّة و الطّائفيّة والقوميّة.
المصدر:شبكة شام الإخبارية
عبدالله النجّار
حقوقي و كاتب و محلل سياسي سوري مختص بالشأن الكردي