تركيا في وقت سابق كانت قد ردّت بحدة على الانتقادات الأوروبية بشأن حرية الصحافة عبر رئيس وزرائها بن علي يلدرم. “بمجرد أن نُفذت الاعتقالات في هذه الصحيفة خرجوا مثل الكورال للبدء فورا في ترديد أن حرية الصحافة انتهت .. ونحن اعتدنا على ذلك.” وتابع يلدرم “نحن لا نهتم بخطكم الأحمر. الشعب هو من يرسم الخط الأحمر. ما هي أهمية خطكم؟”

إلا أن رئيس الوزراء أكد على احترامه حرية الصحافة، إلا أنه تابع قائلًا “لا نتوصل إلى التفاهم حول هذه النقطة مع شركائنا الأوروبيين. في كل مرة يخرجون لنا حرية التعبير عندما نتخذ إجراءات لمكافحة الإرهاب”.

ألمانيا من جانبها تعترف بحزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية ، لكنها مع ذلك تؤوي العديد من الأفراد الذين يصفهم صحفيون ألمان بأنهم “مقاتلون من أجل الحرية” أو مدافعين عن القضية الكردية، ويعتقد معلقون بأن هناك أسباب تستدعي النظر في الدعاوى الموجهة  ضد حزب العمال الكردستاني وضد حزب التحرير الشعبي الثوري، لكن ذلك بنظرهم لن يحدث إلا في ألمانيا.

في داخل ألمانيا أيضًا تتصاعد الانتقادات للحكومة وللمستشارة ميركل إذ طالبها الحزب اليساري بإتباع أقوالها وقلقها بالأفعال تجاه تركيا، التي تثير غضب الساسة في أوروبا بشكل عام، وفي دول مثل ألمانيا وبلحيكا على وجه الخصوص. بلجيكا مثلًا، ترى أن أنشطة حزب العمال الكردستاني شرعية، ولا تصنفه كمنظمة إرهابية، إلى حد أنها سمحت لنشطاء الحزب ببناء خيمة أمام مقر قمة تركية أوروبية عُقدت في مارس الماضي في بروكسل. ما يثير غضب الساسة الأوروبيين في هذه المرحلة هو أن تركيا تملك الكثير من الأوراق السياسية التي تضغط بها على الاتحاد الأوروبي، لا سيما في تلك الأوقات الصعبة التي يمر بها الاتحاد. تستطيع أنقرة الضغط بورقة اللاجئين، وأوراق اقتصادية وسياسية متعددة، لكن الأمر أعقد من ذلك بكثير.

فألمانيا التي تستضيف أكثر من ثلاثة ملايين تركي، تدرك تمامًا مخاطر صعود تركيا بالنسبة لها، وتمددها في أوروبا، أو حتى في محيطها العربي والآسيوي، لا سيما مع الاستقلالية التركية المتزايدة ومع تطور النزعة القومية لدى حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان.

هناك إشارات متعددة على تعزيز النهج القومي لدى إدارة الرئيس أردوغان، خاصة مع تقارب حزبه مؤخرًا وبشكل لافت مع حزب الحركة القومية، لكن قادة الحزب وأنصاره لا يعتبرون ذلك مناقضًا للديموقراطية التي يعتبرها الحزب مكوّنًا رئيسيًا في منظومته الفكرية.

أوروبا، والغرب بشكل عام، كان ينظر إلى نموذج رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية باعتباره نموذج الإسلام الوسطي المعتدل في الحكومة، ويعتقد كثيرون أن هذا هو ما سمح للحزب بالبقاء والاستمرار حتى الآن، إذ أن مناورات الحزب وقادته مكنته من الاستفادة بشكل كبير من مسارات التحديث الغربية في الاقتصاد والمؤسسات، لكنها لم تضعه تحت الهيمنة الأوروبية أو الأمريكية بشكل كامل، ولربما كانت تلك هي المشكلة بالنسبة للعديد من عواصم الغرب.

الآن، وكما جاء في مقال للكاتب التركي فخرالدين ألتون، ترى العديد من الدوائر الأكاديمية والسياسية في الغرب تركيا كدولة “غير قادرة على التحديث” بل وتقاوم ذلك التحديث، بالنظر إلى عدم التزام حزب العدالة والتنمية بالمسار الغربي، وهو ما قاده إلى نزع العباءة الأوروبية، والحديث بشكل واضح عن توجه، إن لم يكن تصادميًا، فهو مقاوم على الأقل.

إن دولة كردية على الحدود التركية، يعني وكيلًا ألمانيًا على تلك الحدود، والدعم الغربي الفجّ لحزب الشعوب الديموقراطي يؤكد أن اللعب على الصراعات داخل تركيا هو الأولوية لإرهاق البلاد المرهقة أصلًا بالحرب على حدودها الجنوبية وباللاجئين على كافة أراضيها.

إن المعركة داخل تركيا وحولها الآن ليست معركة حول الصحافة أو حزب كردي أو حركة إسلامية مضطهدة، إنها صراع هوياتي يعزز من رؤية صامويل هانغتون للأزمة في تركيا باعتبارها دولة منقسمة بين أتراك غربيين، وآخرين شرقيين مسلمين، واستمرار هذه المعركة يعني الاستمرار في إضعاف البلاد.

لا يمكن لألمانيا تصور تركيا قوية، ذات نفوذ قوي في العراق وسوريا، وذات أيد ممتدة في آسيا الوسطى وأفريقيا وأوروبا، وإن كان لابد لتركيا أن تكون كذلك، فعليها أن تلتزم بأجندة محددة مسبقًا لدول “العالم الحر”، لكن أما وإن قرر أردوغان أن يكون صاحب توجه شديد الاختلاف أو التناقض مع ما يطرحه الأوروبيون، فسيكون للعالم ردٌ مشابه لرد فعل ألمانيا، ولذلك فلم يكن من الغريب أن تصدر العديد من التصنيفات لتشير إلى تركيا باعتبارها دولة ذات ديموقراطية مهددة، أو دولة على حافة الديكتاتورية، أو دولة ديكتاتورية حتى!