لكن أحداً في العالم لا يصدق هذه الإدعاءات “الإنسانية” وهذه المناورات المفضوحة، واصبح الجميع يدرك أن القيادة الروسية لا تخضع سوى لمنطق الضغوط والحسم تجاهها، وليس لمنطق التفاوض. فقد عادت، صاغرة، إلى رباعية النورماندي، بعد التهديد الجدي بعقوبات إقتصادية جديدة، وها هي تلتزم “طوعاً” بهدنة طويلة في حلب بعد ارتفاع حدة الإنتقادات لسلوكها في حلب والصفعة، التي تلقتها في الأمم المتحدة، بخسارة مقعدها في مجلس حقوق الإنسان.
تعتبر القيادة الروسية أن ما جرى في الأمم المتحدة هو نتيجة “الألاعيب الجيوسياسية والتشهير الإعلامي” بروسيا، كما نقلت، السبت، صحيفة الكرملين “vzgliad”، نقلاً عن “برلمانيين روس”. ونقلت الصحيفة عن رئيس لجنة مجلس الدوما لشؤون “الدول المستقلة” (الجمهوريات السوفياتية السابقة) ليونيد كالاشنيكوف قوله، إنهم “يريدون أن يجعلوا من روسيا شراً مطلقا، ويسعون لشيطنتها، ويحاولون عزلها، والوضع في مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة ليس سوى مرحلة من هذه العملية”.
كما تنقل الصحيفة عن كونستناتين كوساتشيف، رئيس لجنة مجلس الإتحاد للشؤون الدولية قوله، إن روسيا تعرضت خلال حملة الإنتخابات في مجلس حقوق الإنسان إلى “تشهير مكشوف متفلت من عقاله. وهذا مشين، ولا يُشرِّف لا آلية الإنتخاب نفسها، ولا تلك البلدان والمنظمات، التي قامت بهذا التشهير”.
وتقول الصحيفة إن العريضة التي وقعتها 80 منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان، كان لها دور أساسي في هذه العملية. وتضيف “المنظمات السورية غير الحكومية الموقعة على العريضة، هي في غالبيتها منظمات تتكون من شخص واحد، كما في حال المركز السوري لحقوق الإنسان”. أما منظمة “هيومن راتس ووتش” فهي، بحسب الصحيفة، معروفة بعدائها لروسيا منذ 20 عاماً “حيث كانت أثناء حرب الشيشان تؤيد الإرهابيين بصورة علنية.
لكن، إضافة إلى هذه اللغة الشعبوية المفضوحة، الموجهة بشكل رئيس إلى الداخل الروسي، صدرت اصوات أخرى عاقلة، وإن كان بعضها ليس بعيداً عن الدوائر الإعلامية للكرملين، كما في حال ألكسندر مالاشنكو ، الذي يشغل، إضافة إلى كل مواقعه العلمية والإعلامية الهامة، منصب عضو مجلس الخبراء في وكالة “ريا نوفوستي” المعروفة. وقد استضافه موقع “snob” الروسي المعارض، الخميس الماضي، مع عدد من الخبراء الروس العسكريين والجيوسياسيين، تحدثوا فيه عن تقييمهم للإتهامات الموجهة لروسيا باستهداف المدنيين في سوريا، وارتكاب أعمال قد ترقى إلى “جرائم حرب”، و”جرائم ضد الإنسانية”.
يقول الكسندر مالاشنكو، الذي يعرف العربية والعرب جيداً، والمتخصص في شؤون الإسلام الروسي وعضو المجلس العلمي في “مركز كارنيغي” في موسكو، والنائب السابق في مجلس الدوما عن حزب بوتين، إنه تدور في سوريا حرب أهلية وروسيا تساند احد طرفي هذه الحرب “وهم محقون في اتهامها بقصف السكان المدنيين وقتلهم. نعم، إن روسيا تنتهك باستمرار قواعد خوض الحرب”.
ويشير مالاشنكو إلى أنه من الصعب جداً التفريق بين المدنيين والمقاتلين في حلب، حيث يكون الإنسان في الصباح شخصاً عادياً، ويتحول في المساء إلى مقاتل. ويضيف “نحن نعرف ذلك جيداُ من الشيشان وأفغانستان”. ويتابع “أنا لست معجباً، على الإطلاق، بما تقوم به روسيا في حلب، لكن أي طرف آخر سوف يقوم بالأمر عينه. فالأميركيون، مثلاً، يقاتلون في الموصل، وهناك أيضاَ ثمة ضحايا وسط المدنيين”.
ويمضي مالاشنكو بالقول، إن الاتهامات المحقة الموجهة إلى روسيا، كان يمكن أن تكون أقل من ذلك، لو لم تكن هناك، قبل ذلك، جورجيا وأوكرانيا. والوضع، بالنسبة لروسيا الآن، ميؤوس منه، فهو يهدد بعزلتها وتصاعد انتقادها وسوف تستمر هيبة روسيا بالتدهور. لكن روسيا، بحسب الكاتب “تفقد أكثر إذا خسرت الأسد: فإذا ما ترك (الأسد) منصب الرئيس، فلن يكون هناك وجود لروسيا في سوريا، أي لن تكون هناك إمكانية لتثبيت اقدامها في الشرق الأوسط. سوف تفقد روسيا المنطقة، التي تعتقد بأنها منطقة مصالحها القومية. وهي المنطقة الوحيدة، التي يمكن لروسيا أن تستعرض فيها وجودها السياسي والعسكري”. إن هيبة روسيا “ما زالت موجودة حتى الآن، لأنها تتصرف بوقاحة وتظهر قوتها، تدافع عن مصالحها القومية، وهذا ما يحترمونه في الشرق الأوسط”. بدأت روسيا الحملة في سوريا “على نحو صحيح، غير أنه كان ينقصها العقل والموهبة. فلم يأخذوا بالحسبان المستقبل البعيد: المهمة الرئيسية هي البقاء في سوريا، لكنهم قاموا بذلك عبر مساندة رئيس البلاد، الذي لا يحبه أحد في الشرق الأوسط” يقول مالاشنكو.
إضافة إلى مالاشنكو، استضاف الموقع أيضاً ألكسندر غولتس، وهو صحافي معارض، ويقول، إن روسيا تحاول قتال الإرهاب في حلب “بالوسائل المتاحة لها”. لكن على المرء أن “يكون على جرأة كبيرة”، لكي يقصف المدن. ويؤكد أن “القصف لا يلحق أي ضرر بالسكان المدنيين”، على حد تعبيره.
ويرى غولتس، أن روسيا اكتسبت سمعة معينة، ويكتبون في الصحافة الأجنبية أن “بوتين سفاح سوريا”، وبغض النظر إن كان ذلك محقاً أم لا “إلا أنهم يعتبرون أن روسيا مستعدة لأي تضحيات وسط السكان المدنيين”.
- ويضيف غولتس، أنه حين بدأت العملية العسكرية في سوريا، كان هدف روسيا الأساسي إجبار الغرب على التحدث إليها، بعد الدونباس والقرم. وقد تم لها ذلك “على نحو ممتاز”. لكن الأحجية تكمن في أن “السلطة الروسية، إذ تقوم بالحملة السورية، لا يسعها الكف عن أن تكون هي ذاتها”. فالمقاربة هي مقاربة مبدئية، تحدث عنها بوتين أمام الجمعية العامة للآمم المتحدة السنة الماضية، وهي “أن كل الثورات سيئة، والثورات الملونة هي نتيجة تدخل من الخارج، وروسيا سوف تقف بوجه مثل هذا الأمر”. ويقول غولتس، إنه يتصور، بأن “روسيا تخطط الآن لإحراز نصر رمزي في حلب، ومن ثم البدء بانسحاب صامت من سوريا”