الشرق الأوسط الجديد جارٍ صنعه الآن على نار غير هادئة. شهور أو سنوات قليلة ويتوقف العرب عن وصف أنفسهم بضحايا مؤامرة اشترك في صياغتها وتنفيذها المستر سايكس والمسيو بيكو. أكاد أكون واثقاً أنهم، حتى وإن تخلوا عن سردية «سايكس – بيكو» فإنهم لن يتخلوا عن صفة ضحايا مؤامرة. هم لم يفعلوا شيئا لوقف أو منع مؤامرة «سايكس – بيكو»، وهم لا يفعلون شيئاً الآن لمنع «مؤامرة» هم أنفسهم بسكوتهم وسوء سياساتهم مشاركون فيها. لن تكون المؤامرة في السردية العربية القادمة من صنع فرنسا وبريطانيا العظمى، ولكن في الغالب سوف تحكي عن حرب باردة نشأت لتوها بين روسيا والولايات المتحدة وصراع على النفوذ والقواعد. سوف يصرون أيضاً في سرديتهم الجديدة على أن العرب والمسلمين مستهدفون دائماً بالتقسيم من دون شعوب العالم.
لن تكون السردية العربية السردية الوحيدة التي سوف تحكي قصة التقسيم الجديد للشرق الأوسط. لقد بدأت تتضح الخطوط العامة لسردية أخرى يجري تسريب أو ابتداع أجزاء منها. هذه السردية، أو السرديات، سوف تصدر عن عواصم الغرب، وسوف تركز على تحميل العرب مسؤولية التقسيم. بعض العرب أنشأوا منظمات الإرهاب وتعمدوا نشر الخراب والدمار في بلاد خصومهم. بعض آخر ساهم إراديا أو غافلاً أو تابعاً في تمويل هذه المنظمات بعدما تخلى عنها شكلاً، أو تبرأ منها مؤسسوها. بعض ثالث التهى بالثروة حتى قامت الثورة لتكشف عمق وخطورة التمسك بطائفية مدمرة للأديان قبل الأوطان. بعض رابع راح يقتبس من الغرب والشرق أسوأ ما عنده من أساليب حكم وقمع ليقيم استبداده الخاص في حدود دولته القطرية، معتمداً على حماية دولة أو دول أجنبية.
أفهم بعض ما يجرى على مستوى القمة الدولية، وما يجري هذه الأيام كثير جداً. أفهم مثلا ًأن روسيا، الدولة التي فقدت مكانها في القمة الدولية، عادت تستجمع نفوذاً وتحالفات وقدرات على ممارسة الضغوط من أجل استرداد موقع أو جزء من موقع في شريحة القيادة الدولية. اختارت وأظن أنها أحسنت الاختيار، حين قرر فلاديمير بوتين أن الشرق الأوسط بحال انفراطه الراهن وتدهور الأوضاع الداخلية في معظم بلدانه يمثل الساحة المناسبة التي يمكن الدخول منها إلى شريحة القيادة. قد أوافق على رأي آخرين بأنه ما كان يمكن أن يختار منطقة أخرى ساحة تمهد للعودة. ففي الشرق الأقصى، المحاذير كافة تتجاوز إمكاناته، فضلاً عن أن سباقاً مماثلاً جارٍ هناك بأشكال مختلفة. كذلك أفريقيا. فهي ليست ساحة مناسبة لأنها في الوقت الحالي عادت أو أعيدت إلى وضعها حين كانت قارة مفتوحة للنهب من جانب الدول الصاعدة على السلم الإمبريالي. الصين موجودة هناك الآن، وفي ركابها لتلحق بها أو تتجاوزها اليابان، في أول سباق بينهما خارج آسيا. رأيناهما منذ أيام قليلة في جيبوتي، بلد القواعد بامتياز، يتسابقان على إقامة قاعدة بحرية ثانية أو ثالثة. هناك أيضاً في أفريقيا دول طامحة مثل تركيا وإيران تسعى وراء الفتات، ودول بأحلام استعادة هيمنة مثل ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة. المؤكد على كل حال أنه في سباق من هذا النوع، لا أمل لروسيا في أن يكون لها السبق. فأفريقيا الجديدة تعطي بقدر ما تأخذ، ولا أظن أن روسيا قادرة في الأجل القصير أو المتوسط على مد خطوط سكك حديد وإقامة سدود وشراء مناجم وتطوير التعليم. من ناحية أخرى، لم تكن أميركا اللاتينية في أي وقت مضى تستحق الكلفة السياسية الباهظة التي يتطلبها سباق على القمة الدولية. درس تعلمته دول أوروبا على امتداد قرنين وتعلمته موسكو السوفياتية على امتداد سنوات الحرب الباردة.
يبقى الشرق الأوسط، ساحة مناسبة بدرجة استثنائية. أتحدث هنا عن الشرق الأوسط في مفهومنا، حيث يوجد العالم العربي قلبه النابض حيناً قصيراً والساكت حيناً طويلاً، ولكنه بقي في كل الأحيان مصدر طاقته العاطفية والعقائدية. لن ينكر التاريخ أن هذا القلب العربي حاول قدر استطاعته لفترة خلال القرن العشرين أن يحصل على مكانة متقدمة في سباقات الدول الكبرى، وأنه فشل في الاستفادة من أي سباق من هذه السباقات. نجح في أشياء قليلة. نجح في أن يجعل دولاً أخرى في الشرق الأوسط تحتل في وقت من الأوقات مكانة الهامش أو النتوءات، هي الآن مشاركة بقوة في صنع مستقبل الإقليم. نجح في المحافظة شكلاً على الجامعة العربية كأول تنظيم إقليمي يقام بعد الحرب العالمية الثانية، وفشل موضوعياً في الاستفادة منه لأن الدول الأعضاء خافت منه فأبقته دائماً عند حدوده الدنيا.
لا شيء يجمع العرب الآن. لا اهتمام بهم في العالم الخارجي إلا بقدر الأحزان والمتاعب التي يتسببون فيها لشعوب هذا العالم. هم الآن مصدر الإرهاب تمويلاً وتجنيداً وتنظيماً. هم الذين استعادوا لعروبتهم مكانة الهوية المميزة ثم عادوا وفرّطوا فيها لمصلحة هويات ثانوية. قرأت مؤخراً لكاتب كبير يحذر، أو لعله كان يدعو، إلى أن «العربي» كصفة لن تُلصق إلا بأبناء الطائفة السنية الناطقين بالعربية. وبالتالي لن تضم جامعة الدول العربية في عضويتها إلا الدول السنية الصافية وربما دول أخرى لا تعترف بحق انتماء أفراد أو جماعة لهوية أخرى. أو أن تقوم منظمة إقليمية أخرى سنية الهوية تحل محل الجامعة ذات الهوية العربية و «منظمة التعاون» ذات الهوية الاسلامية.
لم يجتمع العرب على عقيدة أمن واحدة كالتي اجتمعت عليها دول «حلف الأطلسي» ولا على منهج تنموي واحد كالذي اجتمعت عليه دول الاتحاد الأوروبي. بقيت معظم دولها معلقة بين ضرورات الارتفاع إلى مستوى الدولة الوطنية أو التمسك بوضع دولة العائلة الواحدة أو دولة الحزب الواحد أو دولة الرجل الواحد. قامت ثورة عربية وأُجهضت. أجهضتها قوى دولية وإقليمية عديدة لم تشأ رؤية المنطقة العربية وقد قامت فيها دول قومية حديثة على أسس العدالة والكرامة والحرية، أي لم تشأ أن ترى منطقة ترفض أن تكون ساحة مناسبة لسباق دولي جديد أو ساحة مستباحة لتقسيم المقسمات. ها نحن ندفع ثمن الإجهاض، ندفعه دماً وثروات مهدورة وحروباً أهلية وانفراطات طائفية وأرضاً مستباحة وإرهاباً وحشياً ونزاعات وشكوكا متبادلة بين الحكام وهجرات مليونية، ها نحن نعود بعد الإجهاض ساحة مناسبة للغرباء المتنافسين. برغم ذلك بدأنا نقرأ الخطوط الأولى للسردية العربية التي سنورثها للأجيال القادمة، عدنا في السردية الجديدة «ضحايا مؤامرة دولية شريرة». يجري الآن في الموصل وحلب صنع مستقبلنا. لا أحد مهتم بأخذ رأينا أو طلب مساعدتنا. ولا أحد عندنا حريص على تأكيد أن الموصل وحلب مدينتان عربيتان يوظفهما غرباء للدخول إلى مستقبل جديد للمنطقة.
الموصل وحلب تستحقان قمة عربية. شرعية القمة كمؤسسة عربية جامعة هي الآن على المحك. غيابها يحمل رسالة تقول إن شيئاً انتهى وشيئاً أو أشياء جديدة تبدأ والقمة العربية ليست بينها.