أشارت تقارير صحفية إلى أن إدارة أوباما تبحث أخيراً عن بدائل لمسعاها الذي مُني بالفشل للتوصّل إلى تسوية سياسية في سوريا. ويبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يهدف إلى تحقيق انتصار عسكري لطالما ادّعى البيت الأبيض أنه “غير ممكن”، إلا أنه في ظل غياب أي “خطة بديلة” تمارس ضغوطاً على موسكو، سيشهد الرئيس أوباما على الأرجح نسخة محدودة على الأقل من مثل هذا النصر – وعلى الجانب الخطأ.
خلال الأيام القليلة الماضية، أشارت الإدارة الأمريكية على ما يبدو إلى أنها ترغب في انتهاج سياسة أكثر صرامةً، لكن السؤال هو ما مدى جدّية نواياها هذه؟ يُعتبر الشك في هذه الحالة مبرراً. فمنذ عام 2011، نادراً ما فوّت الرئيس أوباما أي فرصة للتبجح بسجله الحافل بتجنّب تعميق المشاركة في سوريا. بالضافة إلى ذلك، تتمثّل أولوياته في المنطقة بمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» والمحافظة على الاتفاق النووي المبرم مع إيران، وهما أمران قد يتأثّران بإجراءات الولايات المتحدة في سوريا (على الرغم من أن مدى هذا التحرك هو محل نقاش). ومن جانبه، لطالما اشترط الجيش الأمريكي مسبقاً على ما يبدو اتخاذ إجراءات أكثر تشدداً وفقاً لهيكلية تنعدم فيها المخاطر وتُستخدم فيها قوة لا متناهية، كما حصل مؤخراً عندما أدلى رئيس “هيئة الأركان المشتركة” الأمريكية الجنرال جوزيف دانفورد بتصريحات حول سوريا في الأسبوع الأول من هذا الشهر. واستناداً إلى ذلك، بدت الخيارات العسكرية “الناشطة” التي سُرّبت إلى الصحافة في غير موقعها إلى حدّ كبير – كما أنها تنطوي على مخاطر فيما يتعلق بصراع محتمل مع روسيا والقانون الدولي. وبالفعل، ردّ بوتين مهدّداً على التقارير الإخبارية، مما عزّز الانطباع السائد بأن التسريبات قد لا تكون سوى مناورة من جانب البيت الأبيض لإظهار خطر مواجهته.
وعلى الرغم من كل هذا، تحتاج الإدارة الأمريكية إلى سياسة جديدة. فأعمال العنف المستمرة في سوريا تتطلب ذلك، وهو الأمر بالنسبة لفشل المساعي الدبلوماسية، والمشاكل الإستراتيجية التي قد تنتج عن السماح لنظام الأسد بمواصلة هجماته التي يغامر فيها بكل شيء والتي تدعمها روسيا. وما هو أكثر غرابة أن الإدارة الأمريكية قد تعتقد الآن أن ظهورها بمظهر الضعف فيما يخص القضية السورية قد يضرّ بالديمقراطيين في الانتخابات القادمة بقدر ما يضر تصعيد خطواتها هناك أيضاً. فعلى سبيل المثال، في المناظرة التي جرت في الأسبوع الأول من هذا الشهر على مستوى نائب الرئيس الأمريكي، دعا كلا المرشحيْن الجمهوري والديمقراطي إلى القيام بعمل عسكري في سوريا، ربما بناء على طلب مرشحيْ الرئاسة من حزبيْهما. كما أن احتمال اعتماد إدارة كلينتون موقفاً أكثر صرامةً أو وصول دونالد ترامب الذي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته إلى البيت الأبيض، يمنح أوباما مجالاً للضغط على موسكو وأطراف أخرى بينما يتوجّه إليهم بالقول “ستحصلون معي على صفقة أفضل”.
مهما كانت دوافعه في الإشارة إلى تغيير سياسته، من الضروري أن يدرك الرئيس أوباما الخطر الفريد الذي تشكله تحركات موسكو في سوريا. فخلال العقود السبعة الماضية من العلاقات الأمريكية – الروسية، كانت القاعدة السائدة تتمثّل بأنه عندما يدفع أحد الطرفين داخل مجالات يَعتبر الآخر أنها تتّسم بحساسية مفرطة وبميزة عسكرية، فيكون على وشك إحداث كارثة (انظر كوريا الشمالية في عام 1950 وكوبا في عام 1962). وبالتالي، كانت إدارة بوش حذرة في ردها المحدود إزاء تدخل موسكو في جورجيا خلال عام 2008، بعلمها أن المصالح والقوى الروسية تهيمن هناك.
غير أن العكس صحيح في بلاد الشام والشرق الأدنى. ففي حين توجد لروسيا بعض المصالح في سوريا، أبرزها القواعد العسكرية، إلا أن سيادتها ومبرراتها لمكافحة الإرهاب تُعتبر مبتذلة. فإذا كان بوتين يهتم حقاً بمحاربة الإرهاب، بما فيه من الشيشان، لكان قد استهدف تنظيم «الدولة الإسلامية» بشكل مستمر منذ ظهوره، وهو أمر لم يفعله – وفي الواقع، ساهم فعلياً في تقوية التنظيم في بعض الأحيان من خلال استهداف خصومه الأكثر اعتدالاً. والأهم من ذلك أن مصالح أمريكا هي أكبر بكثير في سوريا، التي لديها حدود مع إسرائيل، ومع تركيا الدولة العضو في حلف «الناتو»، ومع شريكين مقربين آخرين للولايات المتحدة. كما أن قدراتها العسكرية المحلية أقوى بكثير.
لقد طبّق أوباما هذه القواعد التقليدية حول المنافسة بين “القوى العظمى” بشكل جيد إلى حد ما في ساحات أخرى (على سبيل المثال، في أوكرانيا، وبحر الصين الجنوبي)، غير أن نهجه المتحفظ في الشرق الأوسط قد شجع بوتين على التخلي عن قواعد اللعبة في المنطقة. وإذا كان بإمكانه تجاهل المصالح والهيمنة الغربية في منطقة ما، فبإمكانه تجاهلها في أي منطقة أخرى، مما يكشف عن درجة خطيرة من عدم القدرة على التنبؤ بما قد يحصل خلال هذه المنافسة.
ما الذي ينبغي أن تفعله واشنطن؟
بدلاً من تصعيد الموقف على الفور من خلال اتخاذ تحركات “ناشطة” مباشرة، يمكن أن تطبّق الإدارة الأمريكية النموذج نفسه الذي استُخدم في جورجيا وأوكرانيا، لا سيما استعمال كافة عناصر القوة لدفع روسيا وإيران ونظام الأسد نحو مأزق باهظ التكاليف. وفيما يلي بعض الخطوات المحتملة التي يمكن ان تتخذها الإدارة الأمريكية لتحقيق هذه الغاية، ومعظمها تستفيد من الميزات السياسية والعسكرية البارزة التي تتمتع بها واشنطن في المنطقة:
· وضع حدّ تام ونهائي للحوار ذات النتائج العكسية بين وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ونظيره الروسي سيرجي لافروف.
· تزويد المتمردين في سوريا بالمزيد من الأسلحة، بما فيها بعض الأنظمة التي أرسلتها سابقاً (الصواريخ المضادة للدبابات) وأخرى لم ترسلها قط (على سبيل المثال، مدافع ثقيلة مضادة للطائرات “ذات استخدام مزدوج” ومنظومات الدفاع الجوي المحمولة). وفي حين هناك مخاطرة دائمية بوقوع هذا النوع الأخير من الأسلحة في الأيدي الخاطئة، إلا أن الولايات المتحدة نجحت في نقل مثل هذه الأنظمة من قبل (في أفغانستان، على سبيل المثال). كما أن خطر انتشار الأسلحة هو أقل خطورةً اليوم لأن التقنيات الجديدة تخوّل واشنطن تعقّب الصواريخ المنقولة ومنع استخدامها لإسقاط طائرات تجارية.
· الموافقة على عرض تركيا القاضي بتوسيع المنطقة الآمنة التي أنشأتها في شمال سوريا (مع بعض الدعم العسكري الأمريكي) خلال آب/أغسطس. عندئذ، يمكن للبلدين استخدام المنطقة لإيواء اللاجئين وتوفير إمدادات الإغاثة وتقوية صفوف قوات المتمردين. وكما اقترح مدير “وكالة الاستخبارات المركزية” وقائد القوات الأمريكية السابق ديفيد بتريوس، يمكن الدفاع عن المنطقة بواسطة أنظمة اعتراضية، بما فيها صواريخ باتريوت المضادة للطائرات وبطاريات أرض-أرض لـ “النظام الصاروخي التكتيكي للجيش” (“أتاكامز”) الموجودة في تركيا. بالإضافة إلى ذلك، يمكن استعمال طائرات “أف 22” الخفية المقاتلة لتنفيذ دوريات داخل المنطقة – فهي تتمتع بقدرة أفضل على مجاراة الأنظمة الروسية وكان قد تم نشرها بالفعل في سوريا.
· إنزال الإمدادات الإنسانية فوق حلب وغيرها من المناطق المحاصرة. يجب أن تُختم هذه الإمدادات في طائرات نقل أمريكية من قبل مسؤولي الأمم المتحدة من أجل منحها كامل نطاق الطابع الشرعي القانوني الدولي. ومن ثمّ، يمكن أن تحذّر واشنطن من أي عمل عسكري يطال أي مواقع صواريخ أو قواعد جوية تهدّد هذه الشحنات الجوية. وإذا استمرت التهديدات، يمكن للقوات العسكرية إنزال هذه الإمدادات من قاذفات الصواريخ “الشبح بي 2” التي لا يمكن تعقّبها والمحصّنة عملياً. وليس هناك شك في أن استخدام الموارد العسكرية ذات القيم العالية في مهمات “سياسية” قد يتضمن بعض المشكلات، ولكن بصرف النظر عن الردع النووي، ليس هناك مهمة إستراتيجية على جدول أعمال أمريكا أكثر أهمية حالياً من التعامل مع التدخل الروسي (والإيراني) المتهور في سوريا. وهذه المهمة هي أكثر إلحاحاً حتى من دحر تنظيم «الدولة الإسلامية»؛ إن استخدام أقوى جيش في العالم للقيام بها من شأنه أن يبعث بالرسالة الصحيحة حول أولويات الولايات المتحدة.
· اتخاذ تدابير دبلوماسية بحق روسيا ونظام الأسد وإيران بسبب دورهم في ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية والتسبّب بتدفق اللاجئين بأعداد هائلة ودعم الإرهاب بشكل غير مباشر. لا بدّ من أن اتخاذ مثل هذه الجهود في الأمم المتحدة والجامعة العربية وفي أي طرف آخر قد تجد عنده واشنطن آذاناً صاغية. وكما أطلع “القائد الأعلى لقوات التحالف” في حلف «الناتو» الجنرال فيليب بريدلاف “لجنة الخدمات المسلّحة في مجلس الشيوخ” الأمريكي في آذار/مارس، فإن “روسيا ونظام الأسد يستخدمان الهجرة بصورة متعمدة كسلاح سعياً منهما إلى ممارسة ضغوط هائلة على الهيكليات الأوروبية وكسر العزيمة الأوروبية”. ولا يجب الاستخفاف بهذا التصريح. وتكمن إحدى وسائل مواصلة المقاضاة في دعم “قانون قيصر سوريا لحماية المدنيين” الذي اتفق عليه الحزبان الجمهوري والديمقراطي، والذي منع البيت الأبيض وصوله إلى التصويت أمام الكونغرس الشهر الماضي. ويسعى مشروع القانون إلى استهداف بشار الأسد بسبب جرائم الحرب التي ارتكبها وفرض عقوبات على الذين يتعاملون معه.
· استغلال المخاوف الأوروبية بشأن اللاجئين وجرائم الحرب من أجل إبقاء العقوبات المفروضة على موسكو والمتعلقة بأوكرانيا بل حتى تشديدها. ويمكن الاستفادة أيضاً من هذه النقطة للإطاحة بمشاريع أنابيب الغاز الروسية المثيرة للجدل على غرار “السيل الشمالي 2” و”التيار التركي”، على الأقل فيما يتعلق حتى الآن بمحاولة هذه المشاريع تقليص مسارات الغاز الأوكرانية وتعزيز اعتماد الاتحاد الأوروبي على الإمدادات من عملاق الطاقة الروسي “غازبروم”.
· تعزيز الهجمات ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية». ومن شأن ذلك أن يُظهر عزماً أمريكياً ويسمح بتحوّل الاهتمام والقوات بصورة أسرع نحو مواجهة موسكو وطهران واستباق أي هجوم مضاد إيراني محتمل ضدّ العملية التي تدعمها الولايات المتحدة لاستعادة الموصل في العراق.
لا شكّ في أن المخاطر التي تنطوي عليها هذه الخطوات فعلية وحقيقية ولكنها محدودة. وفي حين أن مثل هذا النوع من المقاربة الشاملة لـ “مبادئ الدبلوماسية البسيطة والأساسية” لا يضمن تحقيق الأهداف بالطريقة المنشودة، غير أن هذا الشك مقبول نظراً إلى المخاطر المحدودة والبدائل الأسوأ. وحتى الآن، كانت الولايات المتحدة تتفاوض من موقع ضعف بدلاً من محاولتها حشد الزخم، مما شجّع بالتالي على تنفيذ الأعمال العدائية التي قام بها بوتين وجعل الموقف أكثر خطورةً وزعزعةً من أي وقت مضى. وبمجرد ارتفاع التكاليف بالنسبة لروسيا وغيرها من الجهات الفاعلة، سيكون بإمكان واشنطن التفاوض مجدداً، لكن هذه المرة بما يكفي من النفوذ – ربّما من أجل التوصل إلى تسوية سياسية قابلة للتطبيق في سوريا.
جيمس جيفري هو زميل متميز في زمالة “فيليب سولوندز” في معهد واشنطن وسفير الولايات المتحدة السابق لدى تركيا والعراق. آنا بورشفسكايا هي زميلة “آيرا وينر” في المعهد.
المصدر: معهد واشنطن للدراسات