شهادة بحق مأمون الحمصي

شهادة بحق مأمون الحمصي

في أواخر حراك ربيع دمشق السياسي في آب 2001 وبعد تراجع الكثيرين وانكفائهم نتيجة تهديد النظام، بقي عدد محدودٌ “طاحشين”، كان منهم مأمون الحمصي النائب الدمشقي الذي حصل بحق على الأصوات الأكثر بين كل المستقلين فقد كان من قلة وصلوا فعلاً بعملية انتخابية نتيجة شعبية حقيقية يتمتعون بها.

كان مأمون الحمصي عندها لا زال في أوج ثروته وأعماله مزدهرةً، وهي ثروةٌ لم يجمعها من “المخدرات” كما أشاعت المخابرات، بل كانت له علاقات مع مسؤولين في النظام في الثمانينات سمحت له بجلب أدوات منزلية كهربائية من لبنان في تلك الفترة وبيعها ككثيرين مارسوا المهنة بتخطيط وإشراف من الفاسدين في النظام وعلى رأسهم رأس النظام وعائلته الذين “خنقوا” البلد ليفتحوا الأبواب الجانبية التي يسيطرون عليها مقابل الرشاوي في كل ما يحتاجه البلد من أساسيات وكماليات، غذائيات وكهربائيات حتى علبة المناديل الورقية وكرتونة الموز…، أي من الطربوش للبابوج”، وهكذا عمل كل تجار سوريا دون استثناء (ومنهم مأمون الحمصي) بهذه الطريقة السوريالية حيث بات بالضرورة كل تاجر كبيراً أو صغيراً مخالفاً للقانون يتم سوقه للسجن بقرار أمني لا علاقة له بالقانون، وكمثال على ذلك للجميع تصور أن حكم إخفاء العملة الصعبة اللازمة للاستيراد أو التعامل بها كان لا يقل عن خمسة عشر عاماً في السجن، ومع ذلك كان جميع التجار “يدبرون” العملة اللازمة للاستيراد بصمت من السلطة التي تفتح الملف فقط بقرار أمني لأسباب أخرى على رأسها الابتزاز.

في آب 2001 وبعد أن انكفأ الكثيرون خوفاً، وبعد مطالبات وتحركات علنية معارضة للنظام مطالبة بالإصلاح داخل مجلس الشعب وخارجه، أعلن مأمون الحمصي عن غضراب عن الطعام في مكتبه عارضاً قائمة بالإصلاحات والاتهامات للنظام، وبعد أيام قليلة تم اعتقاله وسيق للسجن.

قرر توكيل المحامي “حبيب عيسى” الذي كان المتحدث باسم أحد منتديات المعارضة، وبالفعل تم جلب مأمون الحمصي من السجن واجتمع في “القصر العدلي” في مكتب النائب العام مع محاميه “حبيب عيسى” ومع صديق لمأمون في مجلس الشعب كان يحمل بياناً كتبه رئيس شعبة الأمن السياسي اللواء “عدنان بدر حسن” الذي كان الرجل الأقوى حينها، بياناً يقول أن مأمون الحمصي يتراجع عن بياناته السابقة ومطالباته مع اعتذار ضمني معلناً تأييده للنظام المستهدف بمؤامرة خارجية مؤيداً مسار “التطوير والتحديث”.

وصلت الرسالة واضحةً جداً لمأمون الحمصي، وحاول صديقه إقناعه بشدة وإلحاحٍ بتوقيع البيان وأكد له النائب العام بوضوح وبناءً على الأوامر من المخابرات قائلاً: وقع البيان وغادر مباشرة إلى بيتك وكأن شيئاً لم يكن وتابع أعمالك التجارية التي ستزدهر، وإن لم تفعل تنتظرك سنوات في السجن وستخسر كل ثروتك، وبعد لحظاتٍ من التفكير كان جواب مأمون الحمصي الحاد : “لن أتراجع وافعلوا ما تريدون”، وبعد خروجه من غرفة النائب العام مساقاً إلى السجن أخذ يهتف في ردهات القصر العدلي بالحرية لسوريا، ليكون أول معتقل من معتقلي “ربيع دمشق” العشرة الذين تبعوه بعد أيام وأسابيع (وكنت منهم).

بالفعل، حُكم “مأمون الحمصي” خمس سنوات سجن حيث مارس النظام أثناء ذلك البلطجة لنزع ثروته وتدمير أعماله تدريجياً، وبعد خروجه عام 2006 كان لا زال يملك ثروة لابأس بها، وغادر بعد أشهر قليلة إلى الخارج بعد عودة التهديد والضغوط ليتابع نشاطه المعارض.

بعد انطلاق الثورة عام 2011 زار تركيا ومصر وعمل ودفع ما استطاع من مال وقصته مع حسين الهرموش شاهدٌ على ذلك كمثالٍ من امثلة أخرى حيث أبدى استعداده لوضع ما تبقى معه في خدمة الثورة، لكن تم تهميشه كما حصل بعد خروجه من السجن لأسباب البعض الشخصية، وتم استغلاله من قبل البعض بعيد تشكيل المجلس الوطني ليدخلوا المجلس الوطني ويحصلوا على مناصب باستغلاله والتسلق على أكتافه أواخر عام 2011 بينما كان يرمي خلفه الأطماع الشخصية ويضع ما تبقى من ثروته في خدمة الثورة.

في سوريا بقي جزء من عائلته بعد أن منعهم النظام من السفر، وكان منهم ابنه البكر الذي نشط كقيادي فعال في الثورة واعتقل وقضى فترة في السجن، في أثناء ذلك كان مأمون الحمصي يخسر ما تبقى من ثروته ومدخراته مبتعداً عن حفلة الارتزاق التي بدأتها المعارضة، في نفس الوقت الذي كان واضحاً في توصيفه للنظام الطائفي وأهدافه ودوافع مؤيديه الطائفيين واضعاً الإصبع على الجرح وسط حفلة تكاذب المعارضين الذين أزعجتهم ثوريته مقابل انتهازيتهم وهمشوه متحججين باتهامه بالطائفية لنجد اليوم أن جميع الشرفاء يرددون اليوم ما كان يقول بالأمس واضعين أصابعهم على الجرح الذي سبقهم بوضع إصبعه عليه بعد الانكشاف الوقح للنظام الطائفي ومؤيديه وحربهم الطائفية وأهدافها، ولن أتوسع في التفاصيل عما حصل معه في بداية الثورة فلها وقتها ومجالسها الخاصة وربما مذكرات قد أعمل عليها يوما.

للعلم، لم أعرف “مأمون حمصي” قبل سجني وقد قضينا نفس الفترة في السجن لكن في سجنين مختلفين، وقابلته مرتين بعد خروجنا من السجن قبيل سفره وقد عمل البعض على تخريب أي تعاون معه كما أنني كنت أتجنب رجال الأعمال ابتعاداً عن شبهة الارتزاق، كما قابلته مرة بعد خروجي من سوريا في مصر ربيع 2012 في بيت صديق مشترك، ولم أجتمع به باستثناء هذه المرات الثلاث، والآن وبعد أن فقد كل شيء أرى من واجبي أن أقول كلمة حق لا مصلحة شخصية منها كما قد يفهمها البعض وقد بات الرجل يعيش كفاف يومه.

مع عدم ارتباطنا بصداقة شخصية لم أشعر يوماً إلا أنه قريب، وإن وصفته بكلمات عبر معرفتي “بالوسط الدمشقي” بما فعله من خير منذ الثمانيات وبعدها في عمله كنائب في مجلس الشعب ساعد الكثيرين، وأخيراً في عمله السياسي قبل سجنه وبعد خروجه وبداية الثورة؛ فيكفي أن أقول أن “مأمون الحمصي” العفوي البسيط المباشر في الحق لم يكن مثالياً ككل السوريين قبل الثورة، لكنه بكل صدق “زكرت وشهم وصادق ووطني سوري”، وأي شرف كبير أن يعمل لكسب رزقه بينما يتعيش المرتزقة على دماء السوريين وتضحياتهم متصدرين المشهد ليتاجروا ما استطاعوا من أجل مصالحهم الشخصية.

تحية لأخي “الزكرت” أبو ياسين، وسنلتقي في شامنا بإذن الله.

فواز تللو – سياسي وباحث سوري

برلين – ألمانيا  28/09/2016

 

المصدر: كلنا شركاء

عن شباب بوست