تتسارع الأحداث وينشغل اللاعبون في عملية إعادة التموضع على الأرض، فمن إعلان تركيا عن عملية درع الفرات ضد كل من وحدات حماية الشعب الكردية وتنظيم الدولة الإسلامية، إلى تفاهمات كيري – لافروف، وصولا إلى إفصاح الولايات المتحدة الأمريكية عن مشاركتها في العملية العسكرية التركية في شمال سورية، ثم إلغائها بعد إعتراض عدد من فصائل الجيش السوري الحر، التي أعلنت إنسحابها من عملية درع الفرات، تطورات كثيرة ومهمة، رغم عدم نجاحها حتى الآن في إحداث إختراق ما، يمكن البناء عليه للخروج من عنق الزجاجة التي حُشِر فيها الجميع.
منذ أعلنت كل من روسيا وأمريكيا عن هدنتهما المزعومة، وهما في حالة صراع سياسي ودبلوماسي حاد، حيث تحاول روسيا إستثمار ما اتفق عليه، وصولا لإشهاره ومحاولة إنفاذه وفرضه عن طريق قرار أممي، ربما يكرس المكاسب الروسية قبل موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، في حين أن الأخيرة تمتنع وتتمنع عن البوح بخفايا الإتفاق، الأمر الذي دفع الإتحاد الأوروبي ممثلا بفرنسا لمطالبة الولايات المتحدة بضرورة الإفصحاح عن بنود الاتفاق السرية.
عمليا لا يوجد لدى روسيا ما تخسره أو تخشاه، خاصة وأن سياستها تجاه الصراع في سورية واضحة ومبدئية، فهي تقف إلى جانب نظام الأسد، وتحاول الضغط على كافة الأطراف للقبول ببقائه وجر المعارضة إلى تسوية ما، تضمن الحفاظ على مؤسسات الدولة القائمة وخاصة المؤسستان العسكرية والأمنية، اللتان كانتا السبب الرئيس في ثورة الشعب السوري، في حين إن الموقف الأمريكي كان ولا يزال غامضا، وهو ما يمكن تفسيره برغبة الولايات المتحدة بالإستمرار في عملية التلاعب بالمعارضتين السياسية والعسكرية وخداعهما من خلال سياسة التسويف والمماطلة التي تمارسها إدارة أوباما ومنذ أكثر من خمسة أعوام.
النجاح السريع الذي حققه التدخل التركي في شمال سورية خلط الكثير من الأوراق، فسيطرة الجيش التركي وفصائل المعارضة السورية المسلحة على أكثر من 800 كلم من الأرض في زمن قياسي، قد أغرى الأتراك بالغوص قليلا في المستنقع السوري، وذلك على أمل الإستفادة من هذا الزخم في تحقيق المزيد من المكاسب، وصولا إلى تثبيت أقدامهم وفرض رؤيتهم لطبيعة الترتيبات المستقبلية المحتملة لكل من سورية والعراق، أو المشاركة في صنعها على أقل تقدير.
لكن يبقى السؤال هو كيف ستتمكن تركيا من مواجهة التحديات، وتجاوز العقبات التي تعترض طريقها المفروش بالأشواك، خاصة في ظل الصراع الأمريكي – الروسي على النفوذ، وتوثب كل من إيران وحليفها بشار من جهة، وطموحات الأكراد القومية من جهة أخرى، هذه الطموحات التي كانت قاب قوسين أو أدنى، من أن تصبح حقيقة وأمراً واقعا، أو هكذا خيل لهم ربما.
يمكننا القول إن تركيا لم تكن مضطرة لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في هذه المرحلة، فهو لم يكن يشكل خطراً عليها، أقله على المديين القصير والمتوسط، لكنها غَلَّبَت مصالحها بعيدة المدى، فحسمت أمرها وقطعت خط الرجعة مع التنظيم، وذلك من أجل التصدي للتهديد الذي يشكله حزب العمال الكردستاني بجناحيه السوري والتركي، حيث بات هذا التهديد ضاغطا وأشد إلحاحاً، فكان قرار التصدي لخطر ما يسمى التنظيمات الإرهابية.
تركيا اليوم تقدم نفسها ليس فقط بديلا عن وحدات الحماية الكردية، بل كلاعب رئيسي لا يمكن تجاهله، لكنها وفي نفس الوقت لا تضع نفسها في موقف المواجهة والعداء مع بقية الأطراف بل تقوم بتسويق جهودها على أنها خدمة ومساعدة للآخرين، سواء في الحرب المزعومة على الإرهاب أو في إيجاد حل للأزمة السورية، الأمر الذي بدا واضحا من خلال مشاوراتها مع الولايات المتحدة، التي إقترح رئيسها أوباما فكرة القيام بعمل عسكري مشترك في الرقة، وكذلك المشاورات مع روسيا التي زار رئيس أركان جيشها أنقرة لأول مرة منذ 11 عاما وإجتمع بنظيره التركي، ليخرجا بنتائج قيل إنها ستعزز التعاون والتنسيق بين الجيشين، وتركيا لديها قنوات إتصال مفتوحة مع إيران، وكذلك مع حليفتها حكومة كردستان العراق، وحتى مع حكومة بغداد التي لا تملك الكثير من الخيارات، خاصة في مسألة إستعادة الموصل، اللهم سوى القبول بما تمليه عليها إيران المتسلحة بحشد شعبي ميليشياوي شيعي عراقي يقوده جنرالات إيرانيون.
لعل أكبر الخاسرين في هذا الحراك، هو حزب العمال الكردستاني وجناحه السوري، حيث بات يشعر أنه هو المستهدف من عملية درع الفرات خاصة في ظل إنشقاق العديد من الفصائل العربية المنضوية تحت راية ما يسمى قوات سورية الديمقراطية “قسد”، الأمر الذي دفعه لرفع الأعلام الأمريكية في مدينة تل أبيض وأكثر من منطقة سورية يحتلها، وذلك في محاولة للإحتماء بالوجود العسكري الأمريكي، وإن من خلال التشويش على القوات المشاركة في عملية درع الفرات وإيهامها أن هناك قوات أمريكية تتواجد في هذه المناطق، الأمر الذي نفته القيادة العسكرية الأمريكية، لكن وعلى أية حال فإن وحدات الحماية الكردية تدرك تماما أنها لابد وأن تدفع ثمن تفاهمات الكبار، وهي عاجلا أم آجلا ستسلم بما تتفق عليه أمريكا وروسيا وتركيا، سيما وأن الولايات المتحدة بحاجة ماسة للدور التركي المتسلح بفصائل المعارضة السورية، وشريحة سكانية تركمانية عريضة في كل من سورية والعراق، إضافة لأكثر من ميلوني لاجئ سوري يقيمون على أرضها، يتوق مئات الألوف منهم للعودة إلى وطنهم!
صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تعهدت لتركيا بإنسحاب الأكراد إلى غرب الفرات، لكن وحدات الحماية الكردية لم تنفذ التعهد الأمريكي بشكل كامل كونها لاتزال تحتل مدينة منبج، التي أصبحت عقدة المنشار في عملية “درع الفرات”، فهي المدينة المهمة والإستراتيجية، وحجر الزاوية في الخطة التركية الرامية لتطهير منطقة بطول 95 كم وعمق 45 كم، وتصلح نواة لمنطقة آمنة، تمتد من جرابلس وإعزاز والراعي على الحدود التركية، نزولا إلى منبج والباب وأطراف مدينة حلب، لتشرف على مدينتي نبل والزهراء الشيعيتين، مع إمكانية التوسع من خلال ضم مناطق جديدة مستقبلاً, وتركيا تبدو مصممة على المضي في خطتها هذه, وهو ما أكد عليه الرئيس التركي في مؤتمره الصحفي الذي عقده بمطار إسطنبول قبيل مغادرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تبدأ أعمالها اليوم الثلاثاء.
لا شك أن عملية درع الفرات قد نجحت في تامين موطئ قدم مهم لتركيا في الشمال السوري، ما دفعها للعمل على تعزيز حضورها، من خلال سلسلة تفاهمات مع كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وبما يضمن لها المشاركة بل والدور الرئيس في معارك إستعادة الرقة والموصل، ولكن بشرط عدم مشاركة وحدات الحماية الكردية في هذه العمليات، الأمر الذي لايزال مثار أخذ ورد بينها وبين الولايات المتحدة، التي يبدو أنها ليست في وارد التفريط بالورقة الكردية حالياً، خاصة وأنها تحتاجها للضغط على تركيا وإبتزازها في ملفات التسوية السياسية والنفوذ في المنطقة.
تركيا تعلم أن الوقت قد بات في صالحها، وهي تبدو غير مستعجلة في مسألة إخراج الأكراد من مدينة منبج بالقوة، لهذا فإنها تتفادى فتح العديد من المعارك والجبهات في نفس الوقت، كونها بحاجة ماسة لتحصين وجودها في المناطق التي دخلتها، لذلك فإنها تعطي لجهودها السياسية والدبلوماسية فرصة إستعادة المدينة بشكل سلمي، ومن خلال تفاهمات مع باقي الأطراف وعلى رأسها الولايات المتحدة، خاصة في ظل بروز العديد من القضايا الإشكالية التي خلقها تدخلها العسكري، الأمر الذي يحتم على تركيا التعاطي مع هذه الملفات كحزمة واحدة، في حال أرادت أن تحقق هدفها من التدخل في سورية.
كيف تخطط تركيا لنسف مشروع الدولة الكردية في شمال سورية؟
“اللاجئون السوريون لآخر مرة يؤدون صلاة العيد في المخيمات، وهذه هي مشاهد لآخر صلاة عيد في الغربة قبل العودة لوطنهم” بهذه الكلمات وصفت مذيعة قناة “تي آر تي هابر” التركية الرسمية والمملوكة للدولة صلاة العيد في أحد مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا، وهي كلمات ذات مدلول عميق، سيما وأن أخبار المحطة تنتقى بعناية كونها تمثل وجهة النظر الرسمية، الخبر نفسه تكرر ثانية في النشرة المسائية.
ما حدث في اليوم التالي كان هو الزلزال الحقيقي الذي فسر وأكد كلام مذيعة قناة “تي آر تي” التركية، وذلك عندما صرح نائب رئيس الوزراء التركي “نورالدين جانيكلي”، بحسب ما نقلت عنه وسائل إعلام تركية، بأنه سيتم إنشاء مدن جديدة في المناطق السورية التي يتم تحريرها من قبل الجيش الحر ضمن عملية “درع الفرات” التي يقودها الجيش التركي، وستعمل تركيا على توفير كافة مقومات الحياة في المناطق السورية المحررة، وستتم عودة السوريين إلى تلك المناطق والعيش فيها.
لا شك أن هكذا قرار وفي حال إنتقاله من مرحلة القول، إلى مرحلة الفعل سيكون أحد أهم وأكثر القرارات التركية فاعلية، بل إنه سيتعدى في أهميته قرار التدخل العسكري في سورية، لأنه سيؤسس لواقع يخدم في نتائجه كلا الطرفين التركي والسوري الشعبي، لأنه سيؤدي لعودة عدد كبير من اللاجئين السوريين إلى وطنهم، هذه العودة التي ستصبح ممكنة في حال تم بناء مدن وقرى جديدة، وترميم تلك التي قامت قوات صالح مسلم بحرقها وتجريفها، وهو ما سيسهم في تعزيز الأمن القومي لتركيا، وسيحول التدخل العسكري وعملية “درع الفرات” إلى درع لتركيا، التي لن تحتاج لتدخل عسكري جديد في حال أمنت للسوريين بنية تحتية بسيطة توفر لهم سبل العيش إن بحدوده الدنيا وهو ما سيمكنهم من الإنطلاق لإعادة بناء مناطقهم بل وإستكمال تحرير المحتل منها.
الولايات المتحدة تعلم أن فرض منطقة آمنة في شمال سورية سيعني بالضرورة تثبيتا لأقدام العرب السوريين وسيؤمن قواعد إنطلاق لفصائل المعارضة المسلحة باتجاه باقي الجبهات، ولهذا الأمر علاقة برفضها فكرة إنشاء مناطق آمنة للسوريين، فلا هي سمحت بإسقاط الأسد ولا حتى بتوفير الأمان للمدنيين، وموقفها هذا يتماهى مع الموقف الإسرائيلي، بل يعتبر إنعكاساً له، خاصة إذا ما علمنا أن هناك إنزعاج إسرائيلي حقيقي من عملية درع الفرات، التي أملوا منها أن تكون إنغماسا تركيا في المستنقع السوري، لكن المفاجئة كانت أن العملية قد حققت نجاحا كبيراً وبلا خسائر تقريباً، خاصة في ظل الإنسحابات التي نفذها كل من تنظيم الدولة الإسلامية، ووحدات الحماية الكردية من العديد من المواقع، الأمر الذي أدى للحفاظ على المدن وحمايتها من التدمير.
من المتوقع أن يواجه المشروع التركي الكثير من العقبات دوليا وإقليميا ومحليا، لكنه وبلا أدنى شك يعتبر مشروعا طموحا يجب دعمه من قبل الجميع وخاصة السوريين والعرب، لأنه يضع الأمور في نصابها الصحيح ويعيد الحقوق لأهلها ويسهم في الحفاظ على وحدة الأرض السورية، فالقوات الكردية ممثلة بمنظمة “بي كي كي” التركية وجناحها السوري عملت على خلق واقع جديد من خلال عمليات التطهير العرقي الممنهج لعشرات المدن والقرى والبلدات العربية، وهي بهذا تكرر تجربة إسرائيل في فلسطين وإيران في العراق ونظام الأسد في سورية، وقد حققت نجاحا في مسعاها هذا، وكانت تخطط لما هو أبعد من دويلة كردية في سورية، لكن الحقيقة الثابتة هي أنها لم تمتلك يوما مقومات إنشاء دولة مالم تستقدم مئات الألوف من أكراد المنطقة، وهو مالم تملك الوقت الكافي لفعله، ليأتي التدخل التركي وينسف مشروع وحلم “الدولة الشريطية” وفي الوقت المناسب تماماً.
المصدر: اورينت نيوز