مذ بدلت تركيا سياستها تجاه سوريا الثورة، من التهديد واحتمال الوصول للمواجهة كرمى لحرية السوريين وإسقاط الأسد، وإن بالوكالة عبر أذرع عسكرية بالداخل، إلى “أصدقاء أكثر” عقب زيارة الرئيس التركي لروسيا وما تبعها من تقارب تركي إيراني وإسرائيلي، والأحداث تتسارع بشكل يثير الريبة أحياناً، وكأن التكتل الجديد” إيران، تركيا وروسيا” على عجلة من أمره، ويسعى لإتمام ما يمكن فرضه بمنطق “الأمر الواقع” على الأرض، قبل أن تعود الصحوة للإدارة الأمريكية، بوصول رئيس للبيت الأبيض، يعيد ولو بعضا ما أراقه متعمداً، السيد الأسود.
إن لم نترك العنان للخيال والرغبوية بالتحليل، وانطلقنا من بعض الأخبار “الموثقة” التي تصدر عن المسؤولين الأتراك خاصة، فيمكننا بعد عملية ربط بسيطة وتحليل منطقي، أن نستشف بداية أن هدف إسقاط بشار الأسد، لم يعد ضمن أولويات الدولة التركية، كما لم تعد واشنطن ومن وراءها في حلف “الناتو” ملاذ تركيا الوحيد على الأقل، بعد أن كانت أنقرة إلى جوار لندن، الدولتين الطيعتين للولايات المتحدة، ضمن الحلف، والتي عبرهما ربما، لوحت لموسكو بعصا “إنجرليك” تارة ومطرقة درع صاروخي بمناطق نفوذها السابق، بقية الأحايين.
قصارى القول: قال رئيس وزراء تركيا، بن علي يلدريم، صاحب مقولة “أعداء أقل أصدقاء أكثر” أمس السبت “إنّ أنقرة ستضطلع بدور أكثر فعالية في التعامل مع القضية السورية في الأشهر الستة القادمة، مشدداً على أنّ بلاده ترفض تقسيم سورية على أسس عرقية”.
والملفت في ما قاله يلدريم للصحافيين في إسطنبول، إنّه لا يمكن أن يكون لرئيس النظام السوري بشار الأسد دور في مستقبل البلاد، مشيراً في الوقت عينه إلى إمكانية أن يكون للأسد دور فقط في القيادة الانتقالية.
ربما لمدافع عن الدور التركي، أن يفسر التصريح، كما حدث بالسابق خلال تصريح يلدريم أمام كتلة العدالة والتنمية بالبرلمان الأسبوع الفائت، وعلى غير وجه ودلالة، لأن فيه من الدبلوماسية والغموض ربما، ما يمكن قراءته على غير معنى، رغم ما فيه من عدم إشارة لإسقاط الأسد والتأكيد على بقائه خلال المرحلة الانتقالية.
بمعنى من المعاني، أن ثمة توافقا بين أنقرة وموسكو على إرجاء إسقاط النظام السوري، وعدم إدراج تنحيه ضمن المباحثات والحوارات السياسية، وإن ثمة خلافا حتى اليوم حول إمكانية ترشح الأسد لانتخابات ما بعد الانتقالية، وترك الأمر “للشعب السوري” كما تصمم وتروّج موسكو على الدوام.
وربما، من منطق التحليل المستند لوقائع، أن هذا الرأي سيكون محور النقاش الأهم، على طاولة روحاني أردوغان، خلال الزيارة المتوقعة للرئيس التركي إلى طهران خلال أيام، التي أسس لها وزير خارجية إيران خلال زيارته لأنقرة الأسبوع الفائت، وأتمها وزير خارجية تركيا خلال زيارة عابرة لطهران أول أمس الجمعة، وتلك التوافقات -إن لم نقل الاتفاقات- تم وضع الأسد الوريث بصورة مجرياتها، أو ما يهمه منها على الأقل، فعبر عن موقفه من التبدلات الجديدة مرسلاً رسالة حب لأنقرة، عبر قصف طائراته “وحدات حماية الشعب” الكردية بمدينة الحسكة، ولأول مرة منذ رآها حليفاً، وإن بدور وظيفي محدد الأجل والمهام، وسلمها واستلم منها مناطق، ضمن مسرحيات هزلية أكثر إضحاكاً، حتى من مسرحية إعادة تسليم تدمر من تنظيم الدولة “داعش”.
وبالعودة إلى الأخبار الموثقة التركية، ولئلا نترك للعاطفة مجالاً للتأويل، فقد قال نائب رئيس الوزراء التركي، نورالدين جنيكلي إنّ بلاده ستعمل خلال الفترة القادمة على تطوير العلاقات الاقتصادية مع الدولة السورية.
وأوضح جنيكلي في تصريحات لوكالة “رويترز” أمس، أنّ علاقات بلاده الاقتصادية مع سوريا والعراق، تراجعت خلال السنوات السابقة، مشيراً إلى إمكانية تحسين هذه العلاقات وتطويرها اقتصادياً مع كل من الدولة والشعب السوريين.
نهاية القول: من منطلق سياسي بعيد عن الأماني والرغبوية، يمكن القول: مرحى لتركيا ولا شك، إذ استطاعت بدبلوماسية من تبديل موقعها، من العدو والمستهدف، إلى الشريك الفاعل، مُبعدة عن أرضها وشعبها، سنوات عجافا ربما كانت ستمتد طويلاً، بواقع التربص الفارسي وعربدة الدب الروسي، ولعل حجم التبادل المنشود مع موسكو مئة مليار دولار، ومع طهران خمسين ملياراً، بعض تلك الأسباب والنتائج، وإن كان من خطر وأثمن منها، في حماية الجغرافيا التركية من الاختراق، الذي كان ربما يصل إلى التمزيق أو الحرب الداخلية المفتوحة.
ومن منطلق سياسي أيضاً، قد لا يكون من شك، أن لتركيا شروطا يمكّنها وضعها الاقتصادي والعسكري، وخاصة بعد إفشال الانقلاب الشهر الفائت، أن تفرضها على طاولة “الحلفاء الجدد” تتعدى الاقتصاد و”السيل التركي” إذ قد تجازف تركيا، وجازفت فعلاً بالاستثمارات ومليارات التبادل، لكنها لم ولن تجازف بترك خاصرتها رخوة أمام “كردستان سوريا” التي سيمتد شررها إلى حلم “كردستان تركيا” التي باتت أقرب للواقع بعد السيطرة على “منبج” وملامح تنصل واشنطن من التزامها بإخراج الأكراد، لذا أتت ورقة “الأسد” وإرجاء تحديد مصيره، بل وربما استعادة العلاقات، أو بعضها معه.
ولكن، وهنا مربط الفرس، أين السوريون، والمعارضة خاصة من كل ما يجري، وأين الساسة الذين يمكن أن يصلوا للندية بالتعاطي مع الحلف الجديد، وهم -أو هكذا يفترض- يملكون ورقة الأرض، وهي الأكثر تأثيراً ووزناً من كل ما يملك الآخرون.
الإجابة وببالغ الحزن والأسف، أن لا ساسة أفرزتهم الثورة من ذلك العيار، أو بصيغة أكثر إنصافاً، لم يسمح لساسة غير الدمى التي نرى، بالظهور، كما لا صلاحية لهؤلاء على الأرض ومن عليها….بل ربما العكس، لأن من ينوب عن السوريين بحل قضيتهم، لاشك يستند على قوى على الأرض، يمكنه التأثر عليها عبر “صنابير الدعم” أو حتى قصف الطيران إن اقتضى الأمر.
بمجمل الأحوال، يبدو أن ملامح حل بدأت تلوح بالأفق، ربما بدايتها بعد أشهر ستة كما بدأ يقال، وربما شمسها ستشرق من موسكو فعلاً، إن لم تتدخل واشنطن وإن عبر تقسيم جديد لكعكة خراب سوريا وقلب الطاولة بمن عليها، في وقت غير محسوب.
– المصدر : زمان الوصل