العدالة الانتقالية: مغانم التعجيل ومغارم التأجيل

خليل البطران

إن العدالة الانتقالية ليست مجرد عملية محاسبة للجرائم التي ارتكبت خلال فترة حكم استبدادي أو نظام دكتاتوري، بل هي خطوة أساسية نحو بناء مجتمع ديمقراطي يقوم على العدالة والمصالحة. في سوريا، بعد نحو ستة عقود من الاستبداد والقهر، يظل الحديث عن العدالة الانتقالية مهماً أكثر من أي وقت مضى. فلا تقتصر الحاجة إليها على الجرائم المرتكبة خلال الأعوام الأربعة عشر من الصراع، بل تشمل العقود الطويلة من القمع والانتهاكات التي ارتكبها النظام، بدءًا من مجزرة حماة مرورًا بتفاصيل أخرى من سجون تنور، مجزرة التنور، وأحداث سجن تدمر، وصولاً إلى الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري من قبل أجهزة النظام الأمنية.

وفي ظل الواقع المعقد والتحديات الكبيرة التي يواجهُها المجتمع السوري، يصبح تطبيق العدالة الانتقالية أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.

مغانم التعجيل بالعدالة الانتقالية

1. تحقيق الاستقرار السياسي: يعتبر تطبيق العدالة الانتقالية عاملاً رئيسيًا في استعادة الاستقرار السياسي في البلاد بعد الصراعات العميقة التي شهدتها سوريا.

2. تضميد جراح الضحايا: يساهم التعجيل في التئام جراح المجتمع السوري وتقديم العزاء للضحايا وعائلاتهم، ويتيح لهم التعبير عن معاناتهم من خلال شهاداتهم وطلب المحاسبة.

3. الانتصار للضحايا: العدالة الانتقالية تضمن أن حقوق الضحايا تُحترم وأنهم لا يُنسون، بل يُنصفون في محاكمات عادلة.

4. إرساء مبادئ العدالة والقانون: إن تطبيق العدالة الانتقالية يساهم في ترسيخ مبدأ سيادة القانون ويحول دون العودة إلى الممارسات الاستبدادية.

5. ردع المجرمين: يعزز التعجيل بتطبيق العدالة من فكرة الردع الاجتماعي والسياسي للمجرمين المحتملين، ليعلموا أن الانتهاكات لن تمر دون حساب.

6. بناء الثقة بين أفراد المجتمع: إن العدالة الانتقالية تُسهم في إعادة بناء الثقة بين مختلف أطياف المجتمع السوري، بما في ذلك الضحايا والجناة والمجتمع المدني بشكل عام.

مغارم تأجيل العدالة الانتقالية

1. الانتقام الفردي: تأجيل العدالة قد يؤدي إلى أن يتخذ الأفراد الانتقام بأنفسهم، مما قد يفاقم الصراع ويعزز من دوامة العنف.

2. زعزعة الأمن والسلم الأهلي: التأجيل يُطيل من أمد الانقسامات داخل المجتمع السوري، ويعيق مساعي بناء السلام الشامل.

3. فقدان الحكومة لمصداقيتها: إذا تأجلت العدالة الانتقالية، فإن الحكومة قد تُعتبر متواطئة أو غير جادة في التعامل مع الجرائم، مما يؤدي إلى فقدان شرعيتها أمام الشعب.

4. انقسام المجتمع: التأجيل يساهم في تعزيز الانقسامات داخل المجتمع السوري ويجعل من المصالحة مهمة شاقة وغير واقعية.

5. حرب أهلية وفوضى: استمرار غياب العدالة الانتقالية قد يؤدي إلى تصاعد العنف وحرب أهلية جديدة، وهو ما قد يدمر كل فرص السلام.

أسباب تأجيل الحكومة السورية لتطبيق العدالة الانتقالية

1. عدم توفر البنية التحتية اللازمة: تواجه الحكومة السورية تحديات كبيرة في تطبيق العدالة الانتقالية، ومنها نقص البنية التحتية القانونية والإدارية المناسبة لإجراء محاكمات عادلة وفعالة. غياب هذه البنية يعقد من إمكانيات تنفيذ محاكمات تتسم بالشفافية والمصداقية.

2. تركيز الحكومة على الحصول على الشرعية الدولية أولاً: تسعى الحكومة السورية في الوقت الراهن إلى استعادة شرعيتها على الساحة الدولية، مما يجعل من تطبيق العدالة الانتقالية أولوية أقل مقارنةً بالحصول على دعم سياسي واقتصادي دولي.

3. وجود مناطق خارج سيطرة الدولة: هناك مناطق مثل الجزيرة السورية التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والتي شهدت العديد من الانتهاكات والجرائم. هذه الجرائم تحتاج إلى محاسبة، ولكن تطبيق العدالة الانتقالية في هذه المناطق يعتبر تحديًا إضافيًا في ظل غياب سيطرة الحكومة السورية الكاملة.

4. ردود فعل محتملة بسبب المحاسبة الجماعية: من الصعب على الحكومة السورية تطبيق العدالة الانتقالية بشكل شامل، حيث أن معظم المتورطين في الجرائم ينتمون إلى مكون واحد من المجتمع السوري. محاسبتهم بالجملة قد تولد ردات فعل قوية من قبل بعض الفئات التي قد تشعر بأنها مستهدفة، مما يهدد الأمن والاستقرار في البلاد ويزيد من تعقيد المشهد السياسي والأمني.

5. الخوف من ردود الأفعال الطائفية: تطبيق العدالة الانتقالية بشكل يشمل جميع المتورطين قد يؤدي إلى تعزيز مشاعر الاستهداف الطائفي من قبل بعض المكونات السورية، مما يزيد من احتمالية تصاعد التوترات ويؤثر على الاستقرار العام.

العدالة الانتقالية في السياق السوري: دروس من دول أخرى

تُظهر تجارب العديد من الدول التي مرت بتجارب مشابهة أهمية العدالة الانتقالية في بناء المجتمعات بعد الصراعات. على سبيل المثال:

1. جنوب أفريقيا: بعد نهاية الفصل العنصري، أنشأت جنوب أفريقيا “لجنة الحقيقة والمصالحة” التي قامت بالكشف عن الانتهاكات وسمحت للمجرمين بالاعتراف مقابل العفو. هذه العملية ساهمت في المصالحة الوطنية وبناء الثقة بين فئات المجتمع.

2. المغرب: أنشأت المغرب “هيئة الإنصاف والمصالحة” عام 2004، للتحقيق في الانتهاكات التي حدثت في فترة حكم الملك الحسن الثاني. قدمت الهيئة تعويضات للضحايا وركزت على المصالحة بدلاً من محاكمة المسؤولين.

3. تونس: بعد ثورة 2011، أنشأت تونس “هيئة الحقيقة والكرامة” التي ركزت على التحقيق في الانتهاكات التي وقعت قبل الثورة، في خطوة نحو تحقيق العدالة والمصالحة.

4. سيراليون: أنشأت سيراليون “لجنة الحقيقة والمصالحة” بعد الحرب الأهلية في 2002. وقد أسهمت هذه اللجنة في استعادة السلم الأهلي وتحقيق العدالة للضحايا.

إن مثل هذه التجارب تبرز أهمية إنشاء لجان تقصي الحقائق، التي تلعب دورًا حيويًا في التحقيق في الانتهاكات وتقديم شهادات الضحايا. في حالة سوريا، ستكون مثل هذه اللجان ضرورية لكشف الحقيقة حول الانتهاكات التي وقعت، وتمكين الضحايا من التحدث عن معاناتهم، مما يُسهم في عملية المصالحة والتسوية.

خاتمة

إن العدالة الانتقالية في سوريا ليست مجرد خيار، بل ضرورة حتمية. تطبيقها سيسهم في ترسيخ العدالة، والمصالحة، وإعادة بناء الثقة بين السوريين، وهي الخطوة الأساسية نحو مستقبل أكثر استقراراً وحرية. ومع ذلك، يتطلب الأمر إرادة سياسية حقيقية، ودعماً من المجتمع الدولي، لضمان تحقيق العدالة لكافة الضحايا ومحاسبة الجناة.


اكتشاف المزيد من شباب بوســــــت

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Related Posts

أفضل المشاريع الاستثمارية في سوريا بعد الحرب: فرص واعدة للنمو والنجاح
  • مارس 1, 2025

بعد انتهاء الحرب، تواجه سوريا تحديات كبيرة في إعادة الإعمار وإعادة بناء الاقتصاد، مما يفتح أبوابًا واسعة للاستثمار في مختلف القطاعات. تعد المشاريع التي تركز على تلبية الاحتياجات الأساسية والبنية…

Continue reading
مذكرة كردية سورية إلى حكومة الانتداب (تموز – حزيران 1932)
  • فبراير 15, 2025

نطالب بإدارة خاصة مناسبة لمنطقتنا اليكم نض المذكرة نحن الموقِّعين أدناه، من رؤساء عشائر، تجار، مخاتير قرى، وسكان الجزيرة، يشرفنا أن نلفت انتباهكم إلى القضايا التالية: 1- نحن سكان الجزيرة،…

Continue reading

شارك برائيك