

لطالما كانت السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط موضع تساؤلات كثيرة بسبب التناقضات التي شابت مواقفها. إن التدخلات العسكرية والسياسية التي قادتها الولايات المتحدة في سوريا والعراق لم تكن في أوقات كثيرة تهدف إلى حل النزاعات أو إنهاء الأزمات، بل إلى إدارة هذه الأزمات بما يتناسب مع مصالحها. أحد أبرز الأمثلة على هذه السياسة هي التدخلات الأمريكية في سوريا، التي شهدت العديد من التغيرات والتحولات والتي تبين أن الغاية منها لم تكن استقرار المنطقة بقدر ما كانت خلق الفوضى الخلاقة للحفاظ على النفوذ.
الوجود الأمريكي في سوريا: الحجة والمصلحة
منذ بداية الحرب السورية في عام 2011، كانت الولايات المتحدة تتبع سياسة معقدة تجاه النظام السوري. في البداية، كان هناك دعم أمريكي غير معلن لقوى المعارضة السورية باعتبار أن النظام السوري هو المسؤول عن قتل شعبه. ومع تقدم الأحداث، بدأت مواقف أمريكا تتأرجح، وتخلت عن خطاب “رحيل الأسد” في ظل المصالح الإستراتيجية التي بدأت تطفو على السطح.
من جهة، كانت الولايات المتحدة تدعو إلى ضرورة رحيل الأسد، وتنادي بتوفير الدعم للمجموعات المعارضة له، وتعلن عن إداناتها لانتهاكات حقوق الإنسان. ولكن من جهة أخرى، ووفقًا لمصادر عديدة، كانت الولايات المتحدة على علم بتوسع النفوذ الإيراني في سوريا، بل وسمحت لتلك القوى بالتمدد في الأراضي السورية لتشكل تهديدًا إضافيًا للاستقرار الإقليمي. وفي الوقت نفسه، كان التواجد العسكري الأمريكي في سوريا يهدف إلى محاربة تنظيم “داعش”، ولكن كان يترافق مع صمت غير مبرر تجاه تدفق القوات الإيرانية على الأراضي السورية.
الطلب الروسي: التدخل لحماية الأسد
من المثير للدهشة أن العديد من التقارير الإعلامية تشير إلى أن التدخل العسكري الروسي في سوريا في عام 2015 كان بتنسيق ضمني مع الولايات المتحدة. حيث يُقال إن التدخل الروسي جاء بعد طلب رسمي من النظام السوري، الذي كان على وشك السقوط أمام قوى المعارضة. ويُعتقد أن الولايات المتحدة كانت على دراية بحجم المخاطر التي قد يتسبب فيها انهيار النظام السوري، حيث كانت ستنشأ فوضى عارمة قد تتيح لإيران أو القوى المتطرفة مثل “داعش” أن تسيطر على الأراضي السورية. من هنا، كانت الولايات المتحدة أكثر ميلاً للسماح بوجود روسيا في سوريا، على الرغم من التصريحات العلنية التي كانت تدعو إلى “رحيل الأسد”.
الفوضى الخلاقة: أداة أمريكا للحفاظ على مصالحها
الأكثر إثارة للدهشة هو أن السياسة الأمريكية لم تكن تهدف إلى تحقيق استقرار في المنطقة بقدر ما كانت تهدف إلى الحفاظ على توازنات القوى التي تضمن لها النفوذ. فقد اعتبرت الولايات المتحدة أن استمرار النظام السوري – حتى وإن كان مدعومًا من إيران وروسيا – هو الخيار الأفضل من أجل عدم انهيار الدولة السورية تمامًا. ومن هنا، كانت الولايات المتحدة تتعاون بشكل غير مباشر مع روسيا لإيجاد صيغة للحفاظ على النظام السوري، حتى في الوقت الذي كانت تُطلق فيه التصريحات التي تدين الأسد.
السياسة الأمريكية: خلق الفوضى لا إنهائها
إن الفوضى التي تشهدها سوريا هي نتيجة مباشرة لسياسة الإدارة الأمريكية التي لم تكن تسعى إلى إنهاء النزاع بل إلى خلق الفوضى الخلاقة بما يخدم مصالحها. هذه السياسة المزدوجة تبرز من خلال سيطرة الولايات المتحدة على بعض المناطق السورية الغنية بالموارد النفطية، من دون أن يكون هناك أي تحرك حقيقي لحل النزاع أو دعم الحلول السياسية التي يمكن أن تؤدي إلى استقرار سوريا. بدلاً من ذلك، كانت السياسة الأمريكية تركز على الحفاظ على “الاستقرار النسبي” في المنطقة، عبر تحركات عسكرية وتواجد قوات في مناطق استراتيجية مثل شمال سوريا.
إيران في سوريا: على مرأى من الجميع
من اللافت أن إيران دخلت إلى سوريا بعد موافقة غير مباشرة من الولايات المتحدة. في الوقت الذي كانت فيه القوات الأمريكية على الأرض، كانت إيران تبني وتوسع وجودها العسكري في سوريا، بينما كانت الولايات المتحدة تدعي محاربة التنظيمات الإرهابية مثل “داعش”. في الواقع، كانت إيران تدعم النظام السوري بشكل مباشر، وكانت لها قوات على الأرض تمارس تأثيرًا كبيرًا على سير العمليات العسكرية.
الخلاصة: سياسة الفوضى الخلاقة
ما يحدث في سوريا يعكس بوضوح استراتيجية الولايات المتحدة في التعامل مع النزاعات الإقليمية: خلق الفوضى بدلاً من إنهائها. فمع أنها تدعي مكافحة الإرهاب وتعزيز الديمقراطية، إلا أن الواقع على الأرض يشير إلى أن الولايات المتحدة قد اختارت أن تكون جزءًا من هذه الفوضى بما يحقق مصالحها الإستراتيجية. وفي النهاية، يبقى السؤال: هل كانت الولايات المتحدة جادة حقًا في مساعيها لحل الأزمة السورية، أم أن الفوضى كانت جزءًا من خطتها لإبقاء المنطقة تحت سيطرتها؟
إن سوريا اليوم، هي مسرح مفتوح لتنافس القوى الكبرى، حيث يتجسد واقعٌ معقد يصعب تحليله، لكن الأكيد هو أن من يدير هذه الفوضى، سواء في واشنطن أو موسكو أو طهران، هم أول من استفادوا من استمرار الصراع.
اكتشاف المزيد من شباب بوســــــت
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.