الدروز في سوريا: الواقع الراهن، التحديات، والحلول

كنان العاني – شباب بوست

يعيش الدروز في سوريا في ظل تعقيدات سياسية واقتصادية واجتماعية جعلتهم في موقف حساس داخل المعادلة السورية. ومع استمرار التوترات في المنطقة، تسعى أطراف عدة إلى كسب ودهم، سواء من خلال الوعود السياسية أو الاستغلال الاقتصادي. في هذا السياق، تعمل إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو على تقديم نفسها كحامية للدروز، في محاولة واضحة لاختراق مواقفهم السياسية، خاصة في ظل الوضع الاقتصادي الصعب في سوريا. فكيف يمكن للحكومة السورية استعادة ثقة الدروز وضمان استقرارهم ضمن الدولة؟ وما المطلوب من الدروز أنفسهم لضمان حقوقهم بعيدًا عن الاستغلال الخارجي؟

المفتاح الأساسي لحل أي معضلة يكمن في الاعتراف بوجودها أولًا، ثم البحث في جذورها بشفافية وعقلانية، بعيدًا عن التبريرات الواهية التي تهدف إلى تجاوز الأسباب الحقيقية. لا يمكن القفز فوق المشكلات دون مواجهتها بجرأة، كما لا يمكن معالجة الأزمات دون فهم عميق لطبيعتها.

إحدى الحقائق التي لا بد من الإقرار بها هي أن مختلف مكونات المجتمع السوري لا تتبنى عقائد بعضها البعض، وهذا أمر طبيعي. فالاعتراف المطلق بصحة عقيدة الآخر يعني، في جوهره، ذوبان هوية المكوّن المعترف، وهو ما يتنافى مع طبيعة التعدد الديني والمذهبي. فالدروز – موضوع دراستنا – لا يؤمنون بالإسلام إيمانًا تامًا، ولا يتبعون أي دين أو مذهب آخر، وإلا لكانوا قد انصهروا في تلك العقائد ولم تعد هناك ديانة درزية قائمة بذاتها. والأمر ذاته ينطبق على باقي المكونات.

المعضلة تكمن في الفهم الخاطئ للوحدة الوطنية والخطاب الجامع؛ إذ ليس من الضروري أن تتبنى عقيدة الآخر أو تؤمن بها كي تتعايش معه في وطن واحد وتسعيان معًا لتحقيق المصالح الوطنية المشتركة. فالتعايش لا يُبنى على الإيمان المتبادل، بل على القبول بحق الآخر في الاختلاف.

سوريا اليوم بحاجة ماسّة إلى تقوية الوحدة الوطنية وجعلها واقعًا، كي تتمكن من اجتياز هذه المرحلة العصيبة في تاريخها. فأدنى ثمار تطبيق هذا المبدأ ستكون انتزاع كافة الذرائع التي قد يستند إليها أي طرف داخل أي مكوّن لتبرير التواصل مع القوى الخارجية، سواء كانت دولًا غربية أو إسرائيل أو غيرها. عندما يكون الوطن هو القاسم المشترك الأعلى، تتلاشى المبررات التي تؤجج الانقسامات، ويتحقق الحد الأدنى من التوافق الذي يحفظ كيان الدولة.

وربما يكون من الضروري التعمق في دراسة تاريخ الدروز، كما هو الحال مع باقي المكونات، لفهم دوافع مخاوفهم تجاه سورية الجديدة، واستشراف تصوراتهم حول شكل سوريا المستقبلية. إذ لا يمكن بناء وطن متماسك دون إدراك الهواجس العميقة لمختلف فئاته، ومعالجة مصادر القلق التي تدفع البعض إلى الارتياب في المستقبل السياسي للبلاد. فهم التاريخ ليس ترفًا فكريًا، بل هو مفتاح لصياغة عقد اجتماعي جديد يُطمئن الجميع ويضمن لهم مكانًا في وطن يتسع للجميع.

إسرائيل ومحاولات كسب الدروز

على مدى سنوات، سعت إسرائيل إلى استمالة الدروز داخلها وخارجها مستخدمة أساليب متعددة، بدءًا من الخطاب السياسي، مرورًا بالاستغلال الاقتصادي، ووصولًا إلى استقطاب بعض الفئات عبر تقديم مغريات عسكرية ووظيفية. وبدت جلية هذه المحاولات في سياق الضغوط التي تعرضت لها إسرائيل بعد حرب غزة وجنوب لبنان الأخيرة، والتي أفرزت خسائر بشرية غير مسبوقة، وانهيارًا في الروح المعنوية للجنود، وارتفاعًا ملحوظًا في معدلات رفض التجنيد، إلى جانب تصاعد موجات السخط الداخلي بين المكونات غير اليهودية.

في ظل هذا المشهد، يحاول بنيامين نتنياهو استغلال وضع الدروز، سواء داخل إسرائيل أو في سوريا ولبنان، عبر تقديم نفسه كمدافع عن حقوقهم، مستغلًا الوضع السياسي والاقتصادي المتدهور في سوريا. ومن بين الخطوات التي اتخذها في هذا السياق، دراسة استقدام عمال دروز من سوريا، في خطوة تحمل أبعادًا سياسية أكثر منها إنسانية أو اقتصادية. هذه الابعاد السياسة والادعاء بحماية الدروز في سوريا ظهرت فقط بعد سقوط نظام بشار الأسد حيث لم تكترث إسرائيل لأوضاع الدروز في أي وقت تعرض فيه الدروز لاضطهاد او هجمات.

إلى جانب ذلك، تسعى إسرائيل إلى تعزيز وجود الدروز الإسرائيليين في الجيش الإسرائيلي، رغم استمرار التمييز ضدهم في التوظيف وتعرضهم لسياسات هدم المنازل. كما أن هناك اعتقاد بأن العلاقة التي تربط تل أبيب ببعض القوى الفاعلة في الشمال السوري، مثل “قسد”، تُسهم في محاولة خلق تواصل جغرافي يتيح لإسرائيل تعزيز نفوذها في المنطقة وتفكيك وحدة الدولة السورية على المدى البعيد.

الوضع الراهن للدروز في سوريا

رغم كل المحاولات الخارجية لاختراق الموقف الدرزي، لا يزال الدروز في سوريا يحافظون على ارتباطهم بالدولة، إلا أن ذلك لا ينفي وجود مخاوف حقيقية لديهم، تعود في جذورها إلى تجارب تاريخية مريرة. فعلى مر العصور، تعرض الدروز لموجات من الاضطهاد، بدءًا من الدولة الفاطمية، وصولًا إلى حملات أديب الشيشكلي. كما أن الهجمات التي تعرضوا لها في إدلب، وما حدث خلال هجوم تنظيم داعش على السويداء عام 2018، عززت لديهم شعورًا بضرورة حماية أنفسهم وسط حالة من عدم اليقين السياسي والأمني.

لم يكن العامل الاقتصادي وحده هو الدافع وراء بحث بعض الفئات داخل الطائفة عن بدائل، بل لعبت مشاعر الخوف من المجهول وعدم وضوح المستقبل دورًا أساسيًا في ذلك، بينما جعلتهم الأزمة الاقتصادية أكثر عرضة لهذه الخيارات. فقد دفعت حالة عدم اليقين بعضهم إلى التفكير في المطالبة بمزيد من الاستقلالية في إدارة شؤونهم، أو محاولة نسج علاقات خارجية تضمن لهم دعمًا اقتصاديًا يخفف من وطأة المعاناة المعيشية.

كما أن الانقسامات الداخلية بين القيادات الدينية والسياسية الدرزية، مثل الخلاف بين الشيخ الهجري والشيخ الحناوي و الشيخ الجربوع و البلعوس، زادت من تعقيد المشهد، وفتحت الباب أمام استغلال خارجي يسعى لضرب وحدة الدروز وتوجيههم نحو مشاريع تتناقض مع مصالحهم الوطنية.

الانقسامات الداخلية بين المشايخ والنخبة المثقفة

تُعدّ الانقسامات الداخلية بين القيادات الدينية والوجاهات التقليدية من جهة، والنخب المثقفة والفئات الفاعلة من جهة أخرى، أحد التحديات الكبيرة التي يواجهها الدروز في سوريا، حيث تعكس هذه الانقسامات طبيعة التحولات التي يشهدها المجتمع الدرزي، الذي لم يعد مجتمعًا بسيطًا تقوده العائلات والوجهاء وحدهم، بل بات يضم نخبة من المثقفين والأكاديميين والناشطين السياسيين، الذين يطالبون بدور أكبر في صياغة مستقبل الجبل وتحديد موقفه السياسي.

في هذا السياق، تبرز الخلافات حول قيادة الجبل وسبل إدارته، كما هو الحال في الجدل الدائر حول الشيخ حكمت الهجري وطريقة إدارته لملفات السويداء. الناشط السياسي ماهر شرف الدين، الذي عاد مؤخرًا إلى السويداء بعد 23 عامًا، انتقد بشدة النهج القائم، معتبرًا أن إدارة الشأن العام من مضافة الشيخ الهجري بطريقة تقليدية، محاطة بعدد محدود من الأشخاص غير المؤهلين، لم تعد تتناسب مع تعقيدات المجتمع الدرزي المعاصر.

شرف الدين شدد على أن “القيادة في السويداء لم تعد شأناً عائلياً”، بل أصبحت تتطلب مؤسسة قيادية شاملة تضم جميع الكفاءات المجتمعية، بحيث يكون للشيخ الهجري دور الراعي، لا الحاكم الفردي. وأشار إلى أن استمرار إدارة الجبل بعقلية الماضي سيؤدي إلى مزيد من الفوضى والانقسامات، وهو ما يتضح من غياب موقف موحّد للسويداء تجاه القضايا الكبرى مثل مستقبل سوريا الموحدة أو التدخلات الخارجية.

ما يجري في السويداء ليس مجرد صراع شخصي بين شخصيات دينية وأخرى ثقافية، بل هو انعكاس لصراع أعمق حول طبيعة القيادة في ظل التحولات السياسية والاجتماعية. فإذا لم تتم إعادة هيكلة آلية صنع القرار وإشراك جميع القوى الفاعلة، سيبقى الجبل عرضة للانقسام والتشرذم، مما يفتح المجال أمام التدخلات الخارجية والتوظيف السياسي لمطالب المجتمع الدرزي.

لذلك، فإن تجاوز هذه المرحلة يتطلب من القيادات التقليدية الاعتراف بضرورة التغيير، ومن النخب الفاعلة العمل على توحيد صفوفها ضمن رؤية سياسية واقتصادية واضحة تضمن حماية مصالح الدروز في سوريا، بعيدًا عن التبعية لأي طرف خارجي.

ما يجب على الحكومة السورية فعله

إذا كانت الحكومة السورية جادة في الحفاظ على استقرار الدروز وضمان بقائهم جزءًا من الدولة، فإن عليها اتخاذ خطوات عملية تعيد بناء جسور الثقة معهم. أولى هذه الخطوات تتمثل في تعزيز الخطاب الوطني الجامع، عبر ترسيخ مبدأ أن سوريا وطن للجميع، بعيدًا عن أي تمييز عقائدي أو مذهبي. فالوحدة الوطنية لا تعني الذوبان العقائدي، بل تعني الاحترام المتبادل والتعايش تحت مظلة المواطنة.

إلى جانب ذلك، لا بد من تنفيذ إصلاحات اقتصادية عاجلة تستهدف مناطق الدروز، عبر تقديم دعم اقتصادي حقيقي، وتحفيز الاستثمار، وخلق فرص عمل تنعكس بشكل مباشر على حياة السكان. فالحرمان الاقتصادي هو أحد أهم العوامل التي تدفع بعض الفئات للبحث عن بدائل قد تهدد وحدة البلاد.

كما أن حماية الهوية الدينية والثقافية للدروز تعد ضرورة ملحة، من خلال تقديم ضمانات واضحة تحترم خصوصية المذهب وتحميه من أي محاولات للتغيير القسري أو الإقصاء. بالتوازي مع ذلك، يجب التصدي لأي نزعات انفصالية بأساليب ذكية، تعتمد على دعم القيادات الدرزية الوطنية التي تؤمن بوحدة سوريا، بدلًا من ترك فراغ يسمح لأطراف خارجية بالتدخل والتأثير.

ومن الضروري كذلك تعزيز العلاقة بين الدولة والقيادات الدرزية المؤثرة، عبر إشراك الشخصيات الفاعلة في عمليات صنع القرار، لضمان تمثيل حقيقي لهم داخل مؤسسات الدولة، بما يساهم في تحصينهم من محاولات الاستقطاب الخارجي.

ما هو مطلوب من الدروز أنفسهم

إذا كان للدروز مصلحة حقيقية في الحفاظ على حقوقهم داخل سوريا، فعليهم أن يتمسكوا بهويتهم الوطنية السورية، وألا ينجرفوا خلف مشاريع انفصالية تهدف إلى تفتيت البلاد. التجارب التاريخية أثبتت أن إسرائيل، على سبيل المثال، تستخدم الأقليات كأدوات لتحقيق مصالحها، لكنها سرعان ما تتخلى عنها فور انتهاء دورها، وهو ما يستوجب الحذر من أي وعود تقدمها تل أبيب.

ولا يمكن للدروز ضمان حقوقهم دون أن يكونوا فاعلين داخل الدولة ومؤسساتها، فالحقوق لا تُنتزع من الخارج، بل يتم تحقيقها عبر القنوات الرسمية والمشاركة في صناعة القرار. لذلك، فإن تعزيز الحضور الدرزي في مؤسسات الدولة، بدلًا من اللجوء إلى خيارات غير محسوبة العواقب، هو السبيل الأمثل لحماية مصالحهم وضمان مستقبل مستقر لهم داخل سوريا.

ما الذي على الشعب السوري ككل فعله؟

إن خطاب الانتقاص والتخوين للمكونات الأخرى لا ينفع أحدًا، بل على العكس، قد يكون له انعكاسات سلبية تساعد أصحاب المشاريع والأجندات الهادفة إلى زرع الفتن والانقسامات. لذلك، فإن الشعب السوري، بجميع مكوناته، مطالب اليوم بأن يكون أكثر وعيًا للمرحلة الحالية، وأن يستفيد من الدروس القاسية التي مر بها خلال السنوات الماضية. لا يمكن لسوريا أن تنهض إلا إذا تجاوز أبناؤها الأحقاد والخلافات المصطنعة، وسعوا معًا للحفاظ على وحدة الوطن ومكاسب الثورة، حتى الوصول إلى حالة من الاستقرار السياسي والاقتصادي.

خاصةً أن التركة التي خلّفها حكم الأسدين على مدى عقود أفرزت مجتمعًا هشًا، سهل التفكك، يعاني من إرث ثقيل من الاستبداد والفساد والتهميش. وهذا الواقع يستوجب على الجميع العمل بجدية على ترميم النسيج الاجتماعي، وبناء دولة قائمة على العدالة والمواطنة، بدلًا من الاستمرار في دوامة الخلافات التي لا تخدم سوى المتربصين بسوريا ومستقبلها.

الدروز في سوريا أمام مفترق طرق حاسم، حيث تتزايد الضغوط عليهم من مختلف الجهات. في المقابل، تملك الحكومة السورية فرصة حقيقية لكسبهم عبر إجراءات واضحة تضمن حقوقهم وتدمجهم في مشروع وطني جامع. في النهاية، المطلوب هو بناء سوريا تقوم على مفهوم المواطنة الكاملة، حيث تكون المواطنة هي الأساس في بناء الدولة، وليس الانتماء الطائفي أو العرقي.


اكتشاف المزيد من شباب بوســــــت

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Related Posts

تناقضات السياسة الأمريكية في سوريا: من التدخل إلى الفوضى الخلاقة
  • مارس 9, 2025

لطالما كانت السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط موضع تساؤلات كثيرة بسبب التناقضات التي شابت مواقفها. إن التدخلات العسكرية والسياسية التي قادتها الولايات المتحدة في سوريا والعراق لم تكن في…

Continue reading
الولايات المتحدة تستطيع مساعدة سوريا بشكل أفضل بالانسحاب
  • مارس 6, 2025

روبرت س. فورد – السفير الأمريكي في سوريا (2011-2014) | Foreign Affairs ضرورة الانسحاب الأمريكي والتعامل مع الحكومة السورية انتهت الحرب الأهلية السورية التي استمرت 13 عامًا بشكل مفاجئ في…

Continue reading

شارك برائيك