
بقلم: نايا أحمد
بين الإنكار والواقع.. لعبة الخطابات في أرض التناقضات
في أحد مقرات قيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بمدينة الحسكة، تبرز صورتان كبيرتان على الجدران: الأولى لقائد قسد، مظلوم عبدي، والثانية لعبد الله أوجلان، الزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني (PKK). هذه المفارقة البصرية تعكس التناقض العميق الذي يحيط بهذه القوة المسلحة، بين خطابٍ رسمي يُنكر أي ارتباط بالـ PKK، وواقعٍ تُكذّبه الرموز والشواهد.
قسد، التي نشأت كحليف استراتيجي للغرب في الحرب ضد داعش، تواجه اليوم اتهامات بالتطهير العرقي ضد العرب، وسط محاولاتها المستمرة لتقديم نفسها كـ “قوة سورية وطنية”. لكن الدماء التي أريقت، والممارسات القمعية التي وثّقتها منظمات حقوقية، تجعل هذا الادعاء محل تشكيك واسع.
قسد.. حليف الغرب الذي يُنكر “أخاه الأكبر”
النشأة والتركيبة العسكرية
تأسست قسد عام 2015 كتحالف عسكري بقيادة وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، بدعم أمريكي مباشر لمواجهة تنظيم داعش. ورغم الادعاء بأنها قوة متعددة الإثنيات، إلا أن وثائق البنتاغون المسربة عام 2021 تشير إلى أن 75% من قياداتها العليا أكراد، بينما تُدار المناطق العربية عبر مجالس صورية لا تمتلك أي سلطة فعلية.
الوجهان: محاربة الإرهاب وبناء الهيمنة
على المستوى الدولي، تمكنت قسد من تسويق نفسها كقوة رئيسية في الحرب ضد الإرهاب، مستفيدة من الدعم الجوي والغطاء السياسي الذي وفرته واشنطن وحلفاؤها. لكنها محليًا، وبحسب تقارير أممية، فرضت سياسات تهدف إلى ترسيخ الهيمنة الكردية في مناطق ذات أغلبية عربية، مستخدمة نفوذها العسكري لفرض واقع جديد يخدم مشروعها السياسي.
انتهاكات ممنهجة.. عندما يصبح العربي “عدوًا مزدوجًا”
الاعتقالات والتعذيب
وثّقت منظمة هيومن رايتس ووتش عام 2023 أكثر من 340 حالة تعذيب في سجون قسد بدير الزور، كان معظم الضحايا من العرب، حيث اتُهموا بالتعاون مع داعش أو مع النظام السوري. أحد الناجين، الذي رفض الكشف عن اسمه، وصف معاناته قائلاً:
“كانوا يطلبون معلومات عن جيراني مقابل الإفراج عني… هذا ابتزاز، وليس عدالة.”
التغيير الديموغرافي.. صراع الأرض والهوية
شهدت مدن رأس العين وتل أبيض عمليات تهجير قسري للعرب، واستبدالهم بعائلات كردية، وفقًا لتقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان. كما تم تغيير أسماء القرى والبلدات العربية إلى تسميات كردية، مثل تحويل “عين العرب” إلى “كوباني” و**“رأس العين”** إلى “سري كاني”، في محاولة لطمس الهوية العربية لهذه المناطق.
النفط.. الدم الذي يُغذي الصراع
تُسيطر قسد على 80% من نفط سوريا، حيث تُدير الحقول النفطية في دير الزور، إلا أن العائدات لا تعود بالفائدة على السكان المحليين، بل تُستخدم لتمويل أجهزتها الأمنية والعسكرية، بينما تعاني المجتمعات العربية من انهيار الخدمات الأساسية، وفق شهادات محلية.
“لا علاقة لنا بالـ PKK”.. تصريحات مظلوم عبدي تحت المجهر
الإنكار الرسمي
في مقابلة مع قناة “الحرة” (أكتوبر 2023)، نفى قائد قسد، مظلوم عبدي، أي ارتباط مع حزب العمال الكردستاني، قائلاً:
“نحن قوة سورية وطنية، وارتباطنا بالـ PKK أكذوبة تروجها تركيا لتبرير عدوانها.”
كما رفض الدعوات التي وجهها أوجلان في 27 شباط 2025 لنزع السلاح، مؤكداً:
“سلاحنا لحماية الشعب.. ولن نتنازل عنه دون ضمانات دولية.”
الوقائع التي تُكذب الإنكار
لكن الوقائع على الأرض تُناقض هذه التصريحات، حيث تُشير تقارير استخباراتية إلى:
1. الخلفية العسكرية لعبدي: قاد مظلوم عبدي سابقًا وحدات YPG، التي تُصنفها تركيا والاتحاد الأوروبي كذراع لحزب العمال الكردستاني. كما تُظهر وثائق مسربة تدريبه في معسكرات الـ PKK بإقليم كردستان العراق.
2. الأيديولوجيا المشتركة: تُدرّس فلسفة “الأمة الديمقراطية” لعبد الله أوجلان في مدارس الإدارة الذاتية، وصوره تُرفع في الفعاليات الرسمية لقسد.
3. التنسيق الميداني: في أغسطس 2023، شاركت عناصر من الـ PKK في قمع احتجاجات عربية ضد قسد في دير الزور، وفقًا لشهادات محلية.
العرب.. بين “تحرير” مزيف و”احتلال” جديد
الرفض الشعبي
أظهر استطلاع أجرته “شبكة المنظمات العربية السورية” عام 2023 أن 85% من عرب الرقة ودير الزور يرفضون حكم قسد، معتبرين إياها “استعمارًا كرديًا”. ويقول الشيخ نوار العبيد، زعيم عشيرة البقارة:
“الأكراد يسرقون أرضنا وينهبون مواردنا باسم محاربة الإرهاب.”
المعارضة المسلحة
لم يقتصر الرفض على المستوى السياسي، بل تصاعد إلى مواجهات مسلحة. ففي سبتمبر 2023، أعلنت “كتائب ثوار دير الزور”، وهي مجموعة عربية، بدء عمليات عسكرية ضد قسد، مستغلين السخط الشعبي المتزايد ضد سياسات الإدارة الذاتية، لكن غياب الدعم وانقطاع خطوط الإمداد ساعد قسد في خمد هذه الثورة الشعبية.
لعبة الأمم.. من يدعم من؟
الولايات المتحدة
رغم أن واشنطن تدعم قسد عسكريًا كحليف ضد داعش، إلا أن وثيقة سرية لوزارة الخارجية الأمريكية (2022) تؤكد أن الإدارة الأمريكية تُدرك ارتباط قسد بالـ PKK، لكنها تتغاضى عن ذلك لعدم وجود بديل في المنطقة.
تركيا
في المقابل، تعتبر أنقرة قسد امتدادًا مباشرًا للـ PKK، وتشن عمليات عسكرية متكررة ضدها، مثل “نبع السلام” و**“مخلب السيف”**. وقال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان:
“هناك 2000 إرهابي من الـ PKK يختبئون خلف قسد.. وسنستمر في مطاردتهم.”
الخاتمة: مشروعٌ ينهار قبل اكتماله
قسد ليست مجرد ميليشيا، بل مشروع جيوسياسي هش يواجه تحديات متزايدة:
• عسكريًا: تعتمد على دعم خارجي قد يزول مع أي تغيير في التوازنات الدولية.
• سياسيًا: تفشل في كسب الشرعية العربية رغم محاولات ترويج خطاب التعددية.
• أخلاقيًا: انتهاكاتها المتكررة تُحوّلها من “منقذ” إلى “جلاد” في نظر السكان المحليين.
في شرق سوريا، حيث تختلط دماء العرب والأكراد، يبقى السؤال الأهم: هل ستستمر قسد في لعب دورها الحالي، أم أن الأغلبية الرافضة لحكمها ستفرض كلمتها الأخيرة؟
هوامش:
• جميع الأرقام والبيانات مستندة إلى تقارير منظمات حقوقية ودولية.
• بعض الأسماء مستعارة حفاظًا على أمن المصادر.
إقرأ ايضاً
قسد: تناقضات الخطاب الديمقراطي والفشل في الواقع السوري
تقرير منظمة العفو الدولية
سوريا: تدمير القرى على أيدي حلفاء الولايات المتحدة يُعد بمثابة جرائم حرب
اكتشاف المزيد من شباب بوســــــت
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.