
مقال رأي – بقلم نجاح عثمان
في مشهد يعكس التناقضات العميقة داخل سوريا، شهدت المناطق الخاضعة لسيطرة “الإدارة الذاتية” في شرق البلاد مظاهرات إجبارية نظمتها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في الذكرى الـ26 لاعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK) عبد الله أوجلان. في المقابل، كانت المدن الخاضعة لسيطرة المعارضة في إدلب وحلب واللاذقية مسرحًا لمظاهرات عفوية مؤيدة للحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، الذي تسلّم السلطة بعد سقوط نظام بشار الأسد أواخر عام 2024.
مظاهرات مفروضة في الرقة والحسكة والقامشلي
في 15 فبراير/شباط 2025، أجبرت “الإدارة الذاتية” السكان في مدن الرقة، الحسكة، القامشلي، ومناطق أخرى خاضعة لسيطرة قسد على المشاركة في مظاهرات مؤيدة لأوجلان. هذه الفعاليات، التي جاءت تحت تهديد العقوبات، تضمنت رفع صور أوجلان وأعلام PKK، رغم أن قسد تحاول تسويق نفسها كقوة غير مرتبطة بالحزب المصنف “إرهابياً” في الولايات المتحدة وأوروبا.
آليات الإجبار
لم تكن هذه المظاهرات خيارًا للسكان، بل فُرضت بوسائل مختلفة، منها:
• إغلاق الأسواق بالقوة: فُرض على المحال التجارية الإغلاق التام، مع تحذيرات صارمة من فتحها تحت طائلة الغرامات والعقوبات.
• إلزام الموظفين الحكوميين: طُلب من موظفي المؤسسات التابعة لـ”الإدارة الذاتية” الحضور القسري، ونُقلوا بحافلات خاصة إلى مواقع التظاهر. أما من رفض، فقد هُدد بخصم راتبه أو حرمانه من الخدمات الأساسية كالبطاقة التموينية والخبز والغاز.
• الدعاية القسرية: استخدمت سيارات بمكبرات صوت لتوجيه رسائل تهديدية للسكان، تربط بين المشاركة في التظاهرات وبين الحصول على الحقوق المدنية والخدمات الحكومية.
ورغم هذا الضغط، فإن هذه المظاهرات لم تكن سوى استعراض للقوة، في ظل تواتر الأنباء عن احتجاجات مضادة في مدن مثل الرقة ودير الزور، حيث خرج سكان محليون ينددون بسياسات قسد القمعية ويدعون إلى خروجها من مناطقهم.
على النقيض: مظاهرات عفوية في إدلب وحلب واللاذقية
في الوقت ذاته، كانت مناطق إدلب وحلب واللاذقية، التي خرجت من قبضة النظام السوري بعد انهياره، مسرحًا لتحركات شعبية من نوع مختلف تمامًا. المظاهرات هنا لم تكن مفروضة، بل خرجت بشكل عفوي احتفاءً بتشكيل الحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، الذي تولى رئاسة البلاد بعد رحيل الأسد.
تحولات سياسية تعكس مزاج الشارع
منذ إعلان الحكومة الانتقالية في ديسمبر/كانون الأول 2024، تشهد سوريا تغييرات جذرية. وبينما كانت المناطق المحررة تحتفل بسقوط النظام، كانت قسد تعزز من ارتباطها بالأيديولوجية الأوجلانية، متحدية الضغوط الدولية لفك ارتباطها بـPKK.
وفي هذا السياق، شكّلت المظاهرات المؤيدة للشرع رسالة واضحة حول مزاج الشارع السوري في المناطق المحررة، حيث بدا المشهد مناقضًا تمامًا لما يحدث في مناطق قسد. لم تكن هناك تهديدات بإغلاق المتاجر، ولم يُجبر الناس على النزول إلى الشوارع، بل خرجوا بدافع التفاؤل بالمستقبل.
تناقض الخطاب: بين نفي العلاقة بـ PKK وفرض الولاء لأوجلان
تسعى قسد إلى إقناع المجتمع الدولي بأنها كيان مستقل عن حزب العمال الكردستاني، خاصة مع الضغوط الأمريكية لفك الارتباط. لكن تنظيمها مظاهرات إجبارية لتمجيد أوجلان يؤكد على عكس ذلك تمامًا. فكيف يمكن لكيان يدّعي الاستقلالية أن يجبر شعبه على تمجيد زعيم حزب مصنف إرهابيًا دوليًا؟
وعلى النقيض، في المناطق المحررة من النظام، لم تحتج الحكومة الانتقالية إلى فرض الاحتفال على الشعب، بل كان الحراك الشعبي رد فعل طبيعي على انتهاء حقبة الأسد وتطلعًا لمستقبل جديد.
بين العفوية والقسرية: أي سوريا نريد؟
تعكس هذه الأحداث مشهدين متناقضين لسوريا ما بعد الأسد:
• في الشرق، تواصل قسد فرض سياسات قمعية تُذكّر بممارسات النظام السابق، مستبدلة صور الأسد بصور أوجلان، ومستخدمة وسائل الإكراه نفسها لضبط الشارع.
• في الغرب والشمال، بدأت سوريا جديدة تتشكل، حيث تعبر المظاهرات العفوية عن إرادة حرة ورغبة حقيقية في التغيير، بعيدًا عن القمع والوصاية الأيديولوجية.
في النهاية، السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل ستستطيع قسد الاستمرار في هذا النهج القمعي وسط تزايد السخط الشعبي؟ أم أن المزاج العام في سوريا يتجه نحو نموذج جديد قائم على الإرادة الشعبية، بعيدًا عن الشعارات الأيديولوجية المفروضة بالقوة؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة.
اكتشاف المزيد من شباب بوســــــت
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.