
عبد السلام العباس

شباب بوست – خاص
التصنيف و التاريخ
صنّف نظام الأسد محافظات دير الزور، الرقة، والحسكة في سوريا على أنها “نامية”. هذا التصنيف يناقض واقعها التاريخي والثقافي؛ فهذه المحافظات ليست مجرد مناطق هامشية أو مستحدثة، بل هي مهد الحضارات القديمة، حيث قامت أعظم إمبراطوريات بلاد ما بين النهرين وتركت بصمتها في مسار التاريخ الإنساني.

عندما يُقال “المحافظات النامية”، قد يتبادر إلى الذهن أنها مناطق قليلة السكان أو تفتقر إلى الإرث الحضاري. لكن الحقيقة أن هذه الأراضي احتضنت مدنًا أقدم من العواصم الكبرى اليوم. لك أن تتخيل أن مدينة الرقة “النامية” هي أقدم من باريس وبرلين وموسكو. الرقة التي كانت عاصمة العباسيين في عهد هارون الرشيد تعود آثارها إلى 6000 عام قبل الميلاد. كذلك الحال مع دير الزور والحسكة، اللتين تضمان مواقع أثرية تمتد جذورها إلى الحضارات السومرية، الآشورية، والبابلية. ومع ذلك، يتم التعامل مع هذه المدن وكأنها هامشية في الخارطة السورية، رغم عمقها الحضاري والإنساني.((2))

تهميش ممنهج وحرمان من التنمية
لم يكن الظلم مقتصرًا على التسمية فحسب، بل امتد ليشمل كافة جوانب الحياة. الخدمات.، التعليم، الصحة، والبنية التحتية لم تكن على مستوى احتياجات السكان، رغم أن هذه المحافظات هي الخزان الاقتصادي لسوريا من حيث الثروات الباطنية والزراعية كانت هذه المحافضات أشد المناطق فقرًا ، ففيها نحو 58% من فقراء سورية (الفقر العميق).(3)
رغم وجود آلاف آبار النفط والغاز، ظلّت البنية التحتية متهالكة، والمرافق الصحية غير كافية، خاصة في ظل التلوث الناجم عن عمليات استخراج النفط. مناطق حرق الغاز المرافق وما ينتج عنها من غازات أول أكسيد الكربون، ثاني أكسيد الكربون، أكاسيد النيتروجين، والهيدروكربونات أدت إلى انتشار الأمراض المزمنة، وعلى رأسها السرطان. لم تكن هناك أي خطط حكومية لمعالجة هذه المشكلة أو الحد من آثارها.
لم يستفد أبناء هذه المناطق من ثرواتهم. بل تم إقصاؤهم من الوظائف في القطاع النفطي، حيث كان التوظيف يتركّز في أيدي القادمين من الساحل السوري. في حين ظلت نسب البطالة مرتفعة جدًا، مما أجبر الآلاف على الهجرة بحثًا عن فرص عمل في الداخل السوري أو في الدول المجاورة. لم يُستثمر النفط المستخرج في تطوير مشاريع محلية، بل كان يُنقل إلى المصافي في غرب سوريا، بينما ظلت المحافظات المنتجة تعاني من نقص الخدمات الأساسية.
أثر التهميش على التعليم: جامعات متأخرة وفرص محدودة
رغم وجود جامعات في هذه المحافظات، إلا أنها لم تكن كافية لاستيعاب احتياجات السكان وظلت محدودة التخصصات مقارنة بالجامعات في المدن الكبرى.
لعقود طويلة، لم يكن هناك أي جامعات رئيسية في هذه المحافظات باستثناء دير الزور، مما اضطر الطلاب للسفر لمسافات طويلة للوصول إلى الجامعات الكبرى في دمشق وحلب، وهو ما مثّل تحديًا اقتصاديًا واجتماعيًا كبيرًا. حتى بعد إنشاء الجامعات في هذه المناطق، ظلّت الإمكانات الأكاديمية محدودة، حيث لم تُوفر جميع التخصصات المتاحة في بقية المحافظات. هذا أجبر العديد من الطلاب على الالتحاق بجامعات بعيدة عن مناطقهم.
أثر التهميش على الزراعة: سياسة تدمير ممنهجة
كانت الزراعة المصدر الأساسي لمعيشة أبناء هذه المحافظات، لكن خلال سنوات حكم الأسدين، تعرض القطاع الزراعي لتدمير ممنهج من خلال سياسات اقتصادية خاطئة.
تبنى الرئيس الفار بشار الأسد سياسة “تحرير الاقتصاد”، ما أدى إلى رفع الدعم عن المزارعين تدريجيًا، مما جعل تكاليف الإنتاج الزراعي ترتفع بشكل غير مسبوق. في عام 2008، شهدت سوريا أسوأ موجة جفاف في تاريخها الحديث. بدلًا من تقديم الدعم للفلاحين، قامت الحكومة برفع أسعار المحروقات، مما جعل تشغيل المضخات الزراعية أمرًا مكلفًا ومستحيلًا للكثيرين.
تم رفع الدعم عن الأسمدة والمبيدات، مما زاد من أعباء الفلاحين وأدى إلى انخفاض الإنتاج الزراعي بشكل كارثي. كانت النتيجة موجة فقر كبيرة وهجرة جماعية؛ حيث اضطر مئات الآلاف من أبناء هذه المحافظات إلى النزوح نحو الداخل السوري أو اللجوء إلى دول مثل لبنان والأردن بحثًا عن لقمة العيش. (4)
أصالة المنطقة وأهلها
رغم التهميش والحرمان، ظل أبناء هذه المحافظات، والذين تغلب عليهم الصبغة العشائرية، محافظين على قيمهم وعاداتهم العربية الأصيلة من الكرم والنخوة ورفض الظلم، حيث يعتبرون الضيافة قيمة مقدسة. فالفنادق والمطاعم ه مشاريع غير مربحة بشكل كبير، إذ أنها الخيار الأخير للزائر. فما دمت تعرف أحدًا من أهلها، فلن يسمح لك بالنزول إلا في بيته؛ فالكرم والعطاء هما جزء لا يتجزأ من هويتهم.
رغم التحديات والظلم، لا يزال أبناء هذه المحافظات يفتخرون بهويتهم السورية، ويرفضون أي محاولات لإقصائهم أو تمثيلهم خارج الهوية السورية الجامعة، فهم النجمة الثالثة في راية السوريين.
اكتشاف المزيد من شباب بوســــــت
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.