
دعونا نتفق على أن استجرار التاريخ وتحميله بكم هائل من المغالطات والتزييف، كذلك الحديث عن نسب المكونات ومبالغات حول هذا الأمر، ليس الصيغة المثلى لتحديد الحقوق والواجبات. ويبدو أنها كانت جزءً من رهانات لبعض المكونات قبل سقوط الأسد، على أمل أن تأخذ سورية شكلاً أقرب للمحاصصات، وهذا المشروع فشل فشلاً ذريعاً وبات من الماضي.
نحن اليوم في مرحلة بناء وطن اسمه سورية، سورية ما بعد عصابة الأسد، وهنا يجب أن نحترم هذه الحقيقة، ونعي توجه الشعب السوري واتجاهاته، ونحترم ان سورية بلد بسيط لا تتحمل أي مشاريع تقسيمية أو تكون مقدمة للتقسيم ونقر نهائياً بهذه الحقيقة.
دعوني ومن وحي النقاش الدائر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والذي لا يزال الكثير منها يحمل مغالطات تاريخية ويستحضر مغالطات ينسبها للتاريخ منذ آلاف السنين ليبرر مطالب ومشاريع لا تنسجم مع الواقع السوري، وعلى الرغم أن الخوض بالتاريخ البعيد بلغة بعيدة عن الأساليب العلمية والأكاديمية لن يخدم أحد، لكن سأضع ملاحظات سريعة كما يلي:
1- سورية بخارطتها الحالية هي جزء من تكوين حضاري عربي، بلدٌ كانت ولا تزال العروبة جزءً أساسياً من هوية سكانها في مراحل تاريخية متعددة قبل وبعد الإسلام.
2- سورية خضعت لحكم المماليك وبعد انكسارهم أمام العثمانيين، حكمها العثمانيون تحت مفهوم الدولة الدينية أو الملل لاحقاً، ومن المغالطة التاريخية والعلمية استحضار الحقبة العثمانية بوصفها احتلالاً تركياً لسورية! هذا غير صحيح وغير علمي.
3- وردت العديد من المغالطات أثناء مناقشات عديدة مع بعض الساسة الكرد والتي تناولت طبيعة السكان في الجزيرة أثناء الفتح الإسلامي على يد عياض من غنم، وتصوير أن العرب بدأ وجودهم في الجزيرة مع قدوم الإسلام، وانها كانت مأهولة بالأكراد! دون تقديم أي دليل، والواقع كانت الجزيرة الفراتية قبل الإسلام من حيث النفوذ مقسمة إلى ثلاث ديارات:
ديار بكر في الشمال (في تركيا حاليا)
ديار ربيعة ( معظمها ضمن سورية وجزء في العراق)
وديار مضر (من رأس آلعين الى الرقة وجنوبا جزء من العراق)
ويمكن الاستشهاد على سبيل المثال بحادثة رفض تغلب المسيحية بدفع الجزية وارادوا الرحيل باتجاه أرض الروم، فجعلها عمر ابن الخطاب عليهم صدقة مضاعفة بدلاً من الجزية لأنهم عرب يأنفون من الجزية، كذلك حادثة فتح رأس العين عندما استعان القائد الروماني شهرياض بسكانها من أياد ومازن وتغلب باسم رابطة الدين وقاتلوا معه على ذلك ضد المسلمين، كذلك الرقة البيضاء، هكذا سماها المضريون الذين نزلوها قبل الإسلام فلم تعد تسمع باسمها الروماني القديم (كالينيكوم)، لذلك عندما فتح سهيل بن عدي تحت إمرة عياض بن غنم الرقة زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان المضريون في الرقة آنذاك حلفاء للروم، ويقول سهيل يصف فتح الرقة:
وصادمنا الفراتَ غداة سرنا إلى أهلِ الجزيرةِ بالعوالي
أخذنا الرقّة البيضاء لمّا رأينا الشّهر لوَّح بالهلالِ
بالمقابل تخلوا جميع كتب الفتوح من أي ذكر أو وجود للكرد مثلاً ليس فقط في الجزء السوري الحالي من الجزيرة بل في كل الجزيرة الفراتية التاريخية.
3- الوجود الكردي في الجزيرة وخاصة في القسم الشمالي منها ديار بكر يعود الى العصر العباسي عندما وصل باذ بن دوستك مع عصبة في غزواته إلى حدود آمد ، وطبيعي احتكاكهم منذ ذلك الوقت مع العرب، رغم انهم كانوا جبليين بطبيعتهم وبالتالي استقروا في السلاسل الجبلية المحيطة في الجزيرة، أما في سهول الجزيرة (السورية حاليا) كان احتكامهم مع العرب منذ الحقبة العثمانية وبدء خطة إسكان العشائر الكردية والتركمانية في مناطق متفرقة من الجزيرة تقريبا منذ 1701م وهؤلاء غلب على طابعهم العادات العربية في الملبس والمسكن والتقاليد الاجتماعية ويمكن ملاحظة ذلك الى يومنا هذا. بالمقابل حدثت هجرات كبيرة للأكراد بعد تاسيس الدولة السورية الى الجزيرة والى دمشق والى لبنان. هذا لا يعني أننا ننفي حقهم بالمواطنة ما دامت الشروط تنطبق عليهم، لكن لا يعني كذلك أنها أرضهم التاريخية الكردستانية كما يتصور أو يريد أن يتصور البعض.
4- بخصوص أسم الدولة، وصفة (العربية) التي يزعم بعض الكرد أنها أضيفت في عهد البعث، والحقيقة أنه عند تأسيس أول دستور بعد الإستقلال كان اسمها الرسمي المملكة السورية العربية وفي زمن الفرنسيين باتت الدولة السورية ثم الجمهورية السورية ثم الجمهورية العربية المتحدة ثم الجمهورية العربية السورية. وأي بلد عموماً ياخذ اسمه وهويته ولغته من الأكثرية ، وطرح مغالطة اسم سورية ما هو إلا لتبرير مصطلحات ومسميات دخيلة مثل روجافا وكردستان سورية…الخ بدأ تداولها بعد انطلاق الثورة السورية .
5- بخصوص اقتراح محمد طلب الهلال نقل الكرد من الشريط الحدودي إلى مناطق داخلية لدمجهم وإسكان عشائر عربية من الجزيرة بمكانهم، الواقع هلال ليس أول من طرح المشروع، قبله محمد كرد علي -وزير المعارف السوري- أول من اقترح دمج المهاجرين الأكراد على حدود الجزيرة الشمالية ونقلهم إلى مناطق اخرى في سورية لدمجهم في رسالة لرئيس الجمهورية سنة 1931، مع ذلك لم يحدث عمليات تهجير كما اقترح كرد علي أو هلال الذي يدندن القوميين الكرد حول مقترحاته ويتخذونها مظلومية كما لو أن مقترحاته تم تطبيقها فعلاً!
6- ظهر مصطلح كردستان سورية بعد أن ظهر مصطلح كردستان العراق، والأدبيات الكردية قبل عام 2003 واحتلال العراق لم تتداول هذا المصطلح، والأحزاب الكردية التي ظهرت في سورية عند تأسيسها لم تتبنى هذه السردية التي تتحدث عن تقسيم كردستان وقسم منها في سورية كما يزعمون بدون سند تاريخي أو وثيقة سياسية دولية.
7- لا يمكن تطبيق تجربة أكراد العراق في سورية (قالها البرزاني وقالها هوشيار زيباري) لأن واقع أكراد سورية مختلف تاريخياً وديموغرافيا، لذلك طرح حكم ذاتي وفيدرالية ولا مركزية هو أمر لا تتحمله سورية لا على أساس قومي ولا على أساس مناطقي أيضاً.
8- العمال الكردستاني (قسد) قدمت نموذجاً سيئا عن الإدارة الذاتية المليئة بالشعارات والتي أتضح انها في الواقع مختلفة من حيث الممارسات والاستبداد والإجرام والفساد والعنصرية، ناهيك عن ممارسات كرست تحكّم منظومة العمال الكردستاني بالقرار، وحاليا تستجدي مساعدة إسرائيل بعد سقوط الأسد الذي أوجدها في سورية.
9- في سوريا هناك دولة قابلة للبناء على أسس من المواطنة وليس المحاصصة، دولة تضمن مساواتك مع جميع السوريين، تحترم ثقافتك وهويتك ولغتك وتدعمها، لذلك التذرع بمظلوميات البعث وجعلها مبرراً لخارطة قومية في ذهنك على أرض تاريخياً ليست لك، وديموغرافيا أنت فيها اقلية عددية واضحة، وواقعيا أنت متداخل في مساحات مشتركة غير قابلة للفصل عن الآخرين، هو مسألة غير قابلة للتطبيق وبحاجة لواقعية سياسية، يجب بناء تجربة خاصة تنطلق من واقع الكرد في سورية على أسس وطنية، وليست مرتهنة لمشاريع في قنديل أو أربيل أو السليمانية.
اكتشاف المزيد من شباب بوســــــت
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.