اللون: أسطورة الطّين والضّوء..

عمّار حمزة الجّمعة

يمثل اللون أبدع مظاهر الحياة بكامل مكوناتها، وأشيائها، وتأويلاتها، إنه الإيقاع المتناثر المتواتر المتواشج مع أسارير الحياة المتشعّبة , تشعّب الضوء في خلايا الرّوح ,ليرسم التحوّلات بكل رهافةٍ بالقرب من كل التّجلّيات: الرّوحية، والنفسية والجسدية.

 هو اللون بما يمتلكه من مضامين ودلالات وتشعّبات , يسكننا ويؤلّفنا ويصنع مفرداتتا ويصبغ أيامنا وأشكالنا، وأعيننا , من أين نبدأه؟ وهو الذي يبدأنا وأين سنتواقف معه؟ ولا رادع لكينونته إنّه المتقلّب المزاج والمفعم بالمتغيرات التي تكسر روتين المملات من الأشياء، هو الأسطورة التي تحتضن الخاطر الإنساني وتطلقه بمساحات شاسعة البعد تنقله إلى أبعد من المتخيل، وقد تكشفه أمام نزعاته ليستمرا معاً, لونٌ، وذاكرة ٌمخترَقة ٌ بالّلون .

ومما يجدر تأكيده ، أنه لا يوجد لون في الطبيعة له ميزة الجمال، أو القبح، أو القدسية، بحد ذاته , أو أنّ دلالة هذا الّلون قطعيّة من خلاله كلون مطلق، وخالص ومنفرد ، وإنما ترتبط دلالات هذا اللون أو ذاك، من خلال مكانته في لوحة الأشياء, وموقعه على خارطة المكونات، التي تصنع الرؤى المتعددة.

 وقد تختلف دلالات هذا اللون، أو ذاك من مجتمع إلى مجتمع، ومن جماعة إلى أخرى، وقد يرتبط ذلك بمدى إيمان تلك الجماعة بأحقية تقديم ذلك اللون، أو غيره على بقية الألوان، لارتباطه بحدث ما، أو بتاريخ ما، أو بشخص ما , وقد يصبح الّلون جزءاً من تكوين أمّة ,دالاً على هويتها لارتباطه بخلاص ما، أو اندحار فترة كئيبة من تاريخ أمّة، أو تطلعاتها لغد ٍ تشوبه ألوان الآمال والرغبات والأحلام , وكم تكوّنت أحقادٌ على لونٍ من خلال ارتباطه بأحداث مؤلمة، وهو لا ذنب له سوى أنّه ورد في قاموس تلك الفترة أو ذاك الألم، فارتبط بذهنية الناس , والذين قد يستعملونه بفائض الحبّ والتقدير في مواقع ومواسم أخرى, وقد يأخذ في مواقعه الجديدة ,قدسيّة واسعة وقيمة اجتماعية، أو دينية، أو أيدلوجية.

 واحتلّت الألوان وجودية مطلقة في جميع طقوس النّاس وتكويناتهم وانتماءاتهم منذ البداية ، من تجلّيات الروح ورونقها الشائق الطفولي , مروراً بفوضى الرّماد, إلى اللّحد بطقوسه الكفنية البيضاء . فمن الطين بتكوينه الأوليّ ، وألوانه المتدرّجة من البنية اللون، و السمراوية (الصفة)إلى الحمأ بسواده وبدبلوماسية الألوان، يتنوع الإنسان من الحزم، والتعقيد، والقساوة، والثقة، والوقار، إلى الخوف والحزن، والوحدة، والتعبير عن الانكسار، والقهر، واستحضار المظلم في تكوينة القلق البشري وتشتته إلى ما يخترقه من الأبيض الذهبي، بصفائه الملائكي، وبطهره كسحاب خيالي حالم والذي يمنح الأشياء سعاداتها، بضعفه، وحساسيته، وشفافيته، وبسطوته على الألوان يمنحها الضبابية، وبخوفه من الغامض يخترق التكوينة الأولى للوحدة الطينية باحثاً عن الحريّة والخلاص بداخلها ومستثيراً لهواجس الإنعتاق فيتشعّب عبرها لينتثر، ويصنع الطبيعة التي تكوّن المزاجية العليا للوحدة الأولى , وبهذا يكون الإنسان بكامل جمالياته، وإبداعاته التي لا تنتهي، قد انطلق في البدء من لونَيْ تكوينه (الحمأ والضوء), ثمّ كانت ألوانه الأخرى، والتي وصل فيها إلى حدود اللامتناهي, فشكّل نفسه بألوان، وعذّب غيره بألوان، ومنح ألوان، وأمسك ألوان وقيّم بالألوان، وأنزل بالألوان، ورفع بها، وسمّى الأشياء بالألوان، وأنتج التقنيات المتلونة، والملونة وشكّلها بألوانه الخاصّة .

 ثم كان لون المكان! فمن الصحراء بلونها الواحد الحادّ، الذي يصل الألوان ببعضها وبغيرها, إلى المدينة برمادها الحياديّ الغامض العميق، الباحث عن الأفق المنحدر بقساوات الخلف، الذاهب بعمق الخيال الممسوح بحزن المدينة مساءً والذي يمنحها صباحاً فسحة لتتفتح من جديد .

كما تشكّل السماء بُعداً آخر لاحتواءات، أو تداخّلات، أوجاع الألوان، وتشكيلاتها لتمنح احتضاناتها الزرقاء السماوية، لجميع الحالمين، وتمنحهم الفرصة للهروب من اختناقات الألوان، وأمراضها الصفراء، وخيالاتها البنفسجية الصعبة، و المتردّدة، الحزينة، الواهية، واخضرارتها الحسّاسة، و المقدّسة أو المستحيلة البلوغ، والحالمة بالمتغيرات الجّميلة، إلى عالم لا تشوبه فوضى الألوان، ولا انكساراتها، لتغسل كامل تكويناتهم بألق الفضاء البعيد، ومطلقيته من سطوة الألوان, وقد تتّمرد الألوان على كل النّصوص، والمعتقدات اللونية، فلا تمنح نفسها – بكل بساطة – لتدلّ على ثوابت ومعاني لا تتعداها، لتخترق ذهنيّة المتلقي بل وتحضّه على الخروج على الثوابت، وكي تعلن أنّها لم تخلق لتكون لوحة واحدة ثابتة، في بيت قديم نائم حول نفسه، إلى فضاء متشعّب الألوان بدلالات متحولة، قد يستشعرها كل شخص بذاته من خلال ارتباطها بمعانيه الخاصة وكلما دارت الأرض تدور الألوان بألوانها الجديدة المنعتقة من الصورة الثابتة الواحدة، إلى اللامتناهي من الإيقاعات اللّونية التي تخرج فيها الألوان من وحدانيتها ،وجوانياتها، لتمتزج مع مكونات الحياة الأخرى, ولتّتحوّل: الصّور، والمعاني، و التعابير، والأيدلوجيات، والانتماءات، والمعتقدات والإيحاءات، من لون إلى آخر، ومن حياة ثابتة واحدة، إلى حيوات أكثر تجدداً، وتغيراً، وتكويناً, قد تضطر فيه الألوان إلى إغراق ذواتها بمستلزمات مكونات جديدة، أو قد تشقّ (أزياجها)* لتخرج بكامل عريها اللوني ولتقف على صوت الحياة الطالع من شجرة، أو من جبل، أومن مساحات متناثرة لا تلمّها الألوان ,وقد تقف الألوان عاجزة بكامل كنهها، وسطوتها، و انزياحاتها على أن تمثل قيمة ما, فأيّة ألوان قد ترسم حنان أم؟ أو دمعة طفل يتيم، أو حزن مسافر، أو إحساس مشرّد أضنته الحياة بألوان مالكيها، إلى ألوان لا يملكها أحد وعن صهيل المكبوت، وتراجع الأحلام ,عن الحبّ والحريّة، ورايات الخيبة والأمل، والصباحات الناقصة، و عن الإنتظارات, و العشق، والنايات، وتردّدات الخريف الذي لا يُنتزع من الذاكرة , وعن ربيع نحتاجه يكون بحجم الوداعات وأغاني المسافرين ووحشة المحطّات وعن الحبيبات اللواتي يأسن من الذّكرى والأمل . لكنها الألوان ملكٌ للريح، التي لا تقف عند حدّ,هي الأيقوناتُ التي تمنحك – وبلا قيود – المزيد والمزيد من اللاانتماءات المطلقة وبكامل دفئها لكامل إنسانيتك

ــ *الزيج : صدر الثوب


اكتشاف المزيد من شباب بوســــــت

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Related Posts

النافذة بوصلة اتجاهاتنا
  • فبراير 16, 2025

عمار الجمعة النافذة ألق العابرين تطل من أعلى على ما تريد تمنح العشاق أوقاتهم ليقرؤا ما فاتهم من رسائل الراحلين التاركين أوراق أشجارهم تلعب بها الريح أمام نافذة الإتتظار تبحث…

Continue reading
قصة الفلد العسكري( فلد كوري)
  • ديسمبر 9, 2020

فيلد كوريالدكتور ممدوح حمادةالـ (فيلد)  هو سترة عسكرية خضراء يلبسها الجنود فوق لباسهم العسكري اتقاء للبرد وتستر نصفهم العلوي فقط، وللحقيقة فأن الكثيرين من المدنيين يرتدونها فوق لباسهمالمدني أيضا ولكن…

Continue reading

شارك برائيك