
جميل العبد الله، باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

الجذور التاريخية: الشام كحاضنة للحضارات والصراعات
منذ فجر التاريخ، شكلت منطقة الشام—التي تضم اليوم سوريا وفلسطين ولبنان والأردن—نقطة تقاطع للحضارات والثقافات، بدءًا من الحضارات الكنعانية والفينيقية التي أسست أولى المدن-الدول، مرورًا بالإمبراطوريات الرومانية والبيزنطية، وصولًا إلى الفتوحات العربية الإسلامية التي جعلت من دمشق عاصمة للخلافة الأموية. لم تكن هذه المنطقة مجرد مسرح للأحداث، بل كانت مُصمِّمةً لها، حيث انتشر منها العلم والإدارة والعمران إلى أرجاء العالم المعروف. فالإرث الأموي، على سبيل المثال، لم يقتصر على التوسع العسكري، بل شمل إنشاء نظم إدارية متطورة مثل الدواوين، ونقل المعارف عبر ترجمة الأعمال اليونانية والفارسية، مما أسس لعصر ذهبي للعلوم والفنون.
لكن هذا الموقع الاستراتيجي جعل الشام أيضًا هدفًا للغزوات. فالحروب الصليبية (1096–1291) لم تكن مجرد صراع ديني، بل صراعًا جيوسياسيًا حول السيطرة على طرق التجارة بين الشرق والغرب. وبالمثل، مثّل الغزو المغولي في القرن الثالث عشر اختبارًا لصلابة الهوية العربية الإسلامية، التي تجلت في انتصارات مثل معركة عين جالوت (1260). وفي العصر الحديث، تحولت الشام إلى ساحة لتنافس الاستعمار الأوروبي، حيث رسمت اتفاقية سايكس-بيكو (1916) حدودًا مصطنعة، ما زالت آثارها تتفاعل في الأزمات الراهنة، كالتقسيمات الطائفية في لبنان، والصراع على الهوية في سوريا.
الثورة السورية: من المطالب الإصلاحية إلى معركة الوجود
اندلعت الثورة السورية في مارس 2011 كجزء من “الربيع العربي”، مطالبة بالإصلاح السياسي وإطلاق الحريات. لكن سرعان ما تحولت إلى مواجهة دموية مع نظام بشار الأسد، الذي اختار القمع بدل الحوار. هنا، تجلت مفارقة الثورة السورية: تحولها من حركة سلمية إلى صراع معقد تداخلت فيه العوامل الداخلية مع التدخلات الخارجية. فدخول لاعبين إقليميين مثل إيران وتركيا، ودوليين مثل روسيا والولايات المتحدة، حوّل سوريا إلى ساحة لـ”الحرب بالوكالة”، حيث تُستخدم الأسلحة الحديثة والعمليات المعلوماتية كأدوات للهيمنة.
ولا يمكن فصل الكارثة الإنسانية عن هذه الديناميكيات: نزوح أكثر من 12 مليون سوري، وتدمير 70% من البنية التحتية، واستخدام الأسلحة الكيميائية كأداة ترهيب. وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، فإن 60% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، بينما يعاني 50% من الأطفال من اضطرابات نفسية بسبب الحرب. ومع ذلك، يبقى الصمود السوري ملهمًا، خاصة في المناطق المحررة مثل إدلب، حيث تجربة الإدارة الذاتية تثبت قدرة المجتمع على إعادة البناء رغم الحصار، عبر مبادرات مثل المدارس الميدانية والمستوصفات الشعبية.
غزة: من الحصار إلى رمز المقاومة العالمية
في قطاع غزة، المحاصر منذ 2007، يُعاد تعريف مفهوم المقاومة يوميًا. فالحروب المتتالية (2008، 2014، 2021) كشفت عن فشل المشروع الاحتلالي في كسر الإرادة الفلسطينية، رغم التفاوت الهائل في الموارد. هنا، تتحول المقاومة من فعل عسكري إلى استراتيجية وجودية تعتمد على التكيف مع الحصار عبر اقتصاد المقاومة (مشاريع إعادة التدوير، الزراعة الحضرية)، وتعزيز التماسك الاجتماعي عبر الشبكات المحلية.
لكن غزة ليست معزولة؛ فتصاعد دور حركات التضامن العالمية، مثل حملة المقاطعة (BDS)، يعكس تحول القضية الفلسطينية إلى قضية عالمية تُدين الفصل العنصري. كما أن انتفاضات القدس عام 2021 أظهرت توحد الفلسطينيين عبر حدود 1948 و1967، مما يقوض الرواية الصهيونية عن “التهدئة”. وفقًا لدراسة مركز “الزيتونة” للدراسات، فإن 83% من الفلسطينيين في غزة يرون أن المقاومة هي السبيل الوحيد للتحرير، وهو ما يفسر تصاعد دور الفصائل الجديدة مثل “كتائب القسام” التي تعتمد على تكتيكات غير تقليدية كالطائرات المسيرة.
التقاطعات الجيوسياسية: الشام في قلب الصراع الدولي
يربط بين سوريا وغزة أكثر من مجرد الجغرافيا؛ فكلاهما جزء من شبكة معقدة من التحالفات والصراعات. فإيران، التي تدعم النظام السوري، تُموّل أيضًا فصائل فلسطينية مثل الجهاد الإسلامي، كجزء من “محور المقاومة” ضد إسرائيل. بالمقابل، تستخدم إسرائيل الحرب في سوريا لتبرير ضرباتها ضد “التسلل الإيراني” في الجولان. أما تركيا، فدورها المزدوج—داعم للمعارضة السورية وفي الوقت نفسه متحالف مع قطر لدحرجة النفوذ السعودي—يكشف عن تنافس الإمبراطوريات الإقليمية على إعادة ترسيم الشام.
عالميًا، تعكس الأزمة السورية تحول النظام الدولي نحو التعددية القطبية، حيث تتنافس روسيا والصين مع الغرب على النفوذ. فالفيتو الروسي في مجلس الأمن حمى النظام السوري، بينما تعيد الصين بناء ميناء طرطوس كجزء من مشروع “الحزام والطريق”. هذه التحولات تدفع العرب إلى إعادة تقييم تحالفاتهم، خاصة مع تراجع الدور الأمريكي وازدهار الدبلوماسية الاقتصادية لدول الخليج، مثل اتفاقية التطبيع الإماراتية-الإسرائيلية (2020)، التي تهدف لخلق تحالفات بديلة بعيدًا عن القضية الفلسطينية.
مستقبل العرب: بين مخاطر التفتيت وآفاق التكامل
رغم التحديات، تبقى الشام منبعًا للأمل. فالصمود السوري والفلسطيني يثبت أن الهوية العربية قادرة على تجاوز الحدود المصطنعة. وفي هذا السياق، تبرز مبادرات مثل “اتفاقية أبراهام” كاختبار للوعي العربي: هل يقبل بتطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل مكاسب اقتصادية، أم يتمسك بأسس العدالة التاريخية؟ هنا، تلعب منظمات المجتمع المدني دورًا محوريًا في فضح انتهاكات الاحتلال، كما في تقارير “هيومن رايتس ووتش” التي تصف إسرائيل بأنها تمارس “الفصل العنصري”.
من جهة أخرى، يفرض تغير المناخ وتداعياته—كندرة المياه في حوض الفرات—تحديات جديدة تتطلب تعاونًا إقليميًا. فمستقبل العرب مرهون بقدرتهم على تحويل الصراع من لعبة صفرية إلى فرصة للبناء المشترك، مستفيدين من مواردهم الشبابية (70% من السكان تحت 30 سنة) وثرواتهم الثقافية. فمشاريع مثل “الربط الكهربائي الخليجي-المصري” قد تكون نموذجًا للتكامل الاقتصادي الذي يعزز الاستقلالية عن القوى الخارجية.
الدور العالمي: الشام كمرآة للصراع الحضاري
لا تقتصر أهمية الشام على الصراعات المحلية، بل تعكس تحولات النظام العالمي. فتصاعد الدور الروسي في سوريا يُظهر انحسار الهيمنة الأمريكية، بينما تعيد الصين صياغة تحالفاتها عبر استثمارات البنية التحتية. في المقابل، تحاول أوروبا احتواء أزمات الهجرة عبر صفقات مع نظام الأسد، مما يعيد إنتاج الاستعمار القديم بأشكال جديدة. أما غزة، فتصبح نموذجًا لـ”المقاومة الرقمية”، حيث تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لفضح جرائم الاحتلال، كما في حملة #غزة_تقاوم التي وصلت إلى مليارات المشاهدات خلال حرب 2021.
الخاتمة: نحو رؤية استراتيجية عربية
لا يمكن فصل مصير الشام عن مصير العرب ككل. فكما قال المفكر إدوارد سعيد: “الثقافة هي مجال المقاومة”. فالصراع اليوم ليس عسكريًا فحسب، بل هو معركة سرديات بين رواية التحرر ورواية الهيمنة. ولن يتحقق النصر إلا بتبني رؤية عربية موحدة تجمع بين الوعي التاريخي والابتكار السياسي، وتضع الإنسان—وليس السلطة—في قلب المشروع النهضوي. فالشام، بدمائها وأحلامها، تذكّرنا أن التاريخ يُصنع من أسفل، بإرادة الشعوب التي ترفض أن تكون ضحية لقوى الاستعمار القديم أو الجديد.
اكتشاف المزيد من شباب بوســــــت
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.