بقلم د. يسرى السعيد
” ولو تحب خادم خادمها أنا، ولعوف الدولة واعوف السلطنة.”
ترك المغني يُطرب الغرفة عبر راديو عتيق، واتجه نحو الشرفة عساها تُقبِل من الزاوية اليسرى للشارع التي اعتادت أن تتخذها ركناً تمارس في مساحته الصغيرة رياضتها اليومية، وجهز نفسه بآلاف النظرات التي سيحّملها كل أشواقه.
تذكر أول مرة مرت من هناك؛ كانت شرفته تضيئ ببعض الاضواء الملونة التي زينها بها لتبعده عن اصوات الرصاص والقذائف، ويذكر جيدا أن تلك المرأة استطاعت أن تقلب كل حياته بنظرة واحدة وابتسامة نصفها تحية، ونصفها اعجاب، ونصفها شيء لما يفسره بعد!!
منذ فترة فقد علاقته الحميمية مع شرفته، وباتت مكاناً لبضع الاوراق التي لم تسمح له ذاكرته برميها في سلة المهملات، فوضعها هنا عساها الريح تأخذها دون أن يؤنب نفسه على خيانته لأفكاره التي كتبها يوماً من الايام.
ومن زمن بعيد اعتاد أن يرى أشخاصاً بلا وجوه، أقدام تتحرك دون أن يعني له ذلك أي شيء؛ حتى اقبلت تلك الساحرة فقلبت الأجواء، وأعادت له لهفته ورغبته في الانتظار!
كل منهما كان يرد تحية ً لم يتلقاها، وكل منهما كان ينتظرعيوناً تحمله عبر بريقها لمتاهات العبارة، فيبقى الصمت وحده الصارخ باسم تلك العلاقة التي لايعرف متى بدأت؛ لكنه يشعر بأنها كبرت ونمت مثل شجرة ياسمين تعرش على جدران القلب!!
واليوم وككل يوم سينتظرها، واليوم وكغير كل الايام ستأتي وهي تجر كرسياً متحركاً يجلس فيه شاب وسيم، لكن أطرافه مفقودة!
لم يستطع أن يبقى على الشرفة، ولايدري كيف أصبح على الرصيف مشعلاً سيجارته، مدمدما ببعض التحيات الخافتة على جارته العجوز التي تجلس في الزاوية اليسرى من الرصيف، والتي تدعوه لشرب كأس من الشاي معها، وتخبره بأن الحياة أخذت الكثير منا في هذه السنوات فهاهي جارتنا الحسناءعديمة الحظ في الحارة المجاورة تجر كرسي زوجها الذي فقد أطرافه في احدى المعارك التي خاضها حين كان ضابطاً، ويهز لها برأسه مردداً أن تلك الحرب أفقدت الجميع أطرافهم حتى لو لم يفقدوها!!
ويودع العجوز عائداً لبيته معتذراً بأن اليسار لم يعد مكانه كما قال أحد الأدباء، ويغلق شرفته مطفئاً مذياعه، متصالحاً مع أوراقه مرة أخرى.