سورية ضحية الاجندات الداخلية والخارجية
د. محمود الحمزة
19/10/2019
ثورات الربيع العربي كانت أعظم حدث في تاريخ شعوب المنطقة في القرن الواحد والعشرين. والثورة السورية كانت عظيمة بقيمها ومبادئها ودفعت تضحيات هائلة. وقد مارس نظام الاسد المافيوي، مدعوماً من حلفائه، ابشع الجرائم والاساليب الوحشية بحق السوريين، وخدمته قوى ظلامية متعصبة واجرامية، ساهم هو في خلقها واستجلابها، وعملت على خلط الأوراق لتشويه صورة الثورة وعلى نشر الفوضى والتطرف الديني والقومي والطائفي. وكان هدف تلك القوى، التي تاجرت بشعارات دينية مزيفة، هو قتل ارادة الحرية والكرامة لدى الشعب السوري واجهاض ثورته العظيمة. وتمكنت عصابة الاسد من البقاء على قيد الحياة حتى اليوم وان كانت مريضة وهزيلة.
ما شهدته بلادنا مثال ساطع على استغلال القوى المختلفة الظروف وسعيها لتحقيق اجندات لا علاقة لها بثورة السوريين ومطالبهم العادلة.
منذ ان انطلقت الثورة سلمية عفوية كان النظام الاسدي جاهزاً للرد عليها فوضع خطة شاملة لمجابهتها. وبالرغم من أن الثورة زعزعت سلطته وكادت تنتصر عليه إلا أن عوامل اخرى ركبت موجة الثورة وتمكنت من اعاقتها مثل:
1- لعب النظام بنجاح على وتر الطائفية، الذي تحدثت عنه بثينة شعبان من الاسبوع الاول للثورة ، وحينها استغرب السوريون هذا التصريح. ثم لعب بالأوراق الدينية والقومية ايضا، لم يجابهه خطاب معارض واضح وقوي لموقف قوى الثورة من كل مكونات الشعب السوري ومن التطرف الديني والقومي لطمئنة الناس .
2- عسكرة الثورة التي ساهم النظام بخبرته الخبيثة في تحويل الثورة السلمية الى مسلحة لكي يتمكن قمعها مستغلا القانون الدولي. وكذلك ساهمت القوى الاسلامية في الاسراع بالعسكرة لتوهمها بامكانية حل موضوع السلطة على شاكلة التدخل الدولي في ليبيا.
3- أسلمة الثورة التي برزت في شعارات القوى المسلحة والسياسية وبالهيمنة الحقيقية للاخوان المسلمين على أهم مؤسسات المعارضة والثورة.
4- المعارضة السياسية لم تقدم خططاً أو استراتيجية للثورة، بالاضافة إلى أن اغلب قادتها من المتسلقين والانتهازيين والذين ارتبطوا باجندات خارجية لا علاقة لها بالثورة. ولا نستثني الاختراقات الخطيرة من قبل اجهزة النظام في قيادات المعارضة
5- الاحزاب السياسية التقليدية لم تتمكن، بسبب هيمنة الفكر الشمولي والاساليب اللاديمقراطية في العمل، ولتعودها على اساليب العمل السرية، من لعب دور فاعل في الثورة كتنظيمات، ولم تقدم برامج تساعد الناشطين في بلورة نشاطاتهم وتنظيم قيادة الثورة، وبذلك كشفت الثورة عن عجز تلك الاحزاب وفشلها في التصدي للمهمات المنتظرة منها حيال الثورة، بالرغم من أنها نادت بها على مدى عقود.
6- الحركات الدينية المتطرفة التي كان هدفها الاساسي عرقلة الثورة والاجهاز عليها مثل داعش وجبهة النصرة التي تخدم اجندات معادية للشعب السوري ولسورية ككل.
7- ميليشيات وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (التابع لحزب العمال الكردستاني) المعروف بارتباطه بالنظام منذ تأسيسه، وبايران، وتبعيته للولايات المتحدة وروسيا ، حيث قمع مظاهر الثورة في الجزيرة وارتكب جرائم بحق الكرد والعرب والاشوريين وكل ابناء الجزيرة، ووسع نفوذه بدعم امريكي حتى كاد يقيم كيانا على طول الحدود مع تركيا وبعمق كبير وصل الى دير الزور. وحاول ايهام الناس بشعارات الديمقراطية (قوات سورية الديمقراطية) والادارة الذاتية، علماً أنه خدم اجندات معادية تماما لثورة الشعب السوري. ونذكّر أيضا بأن حزب الاتحاد الديمقراطي، مثل اصله حزب العمال الكردستاني، يحملون الايديولوجيا الماركسية ويلتزمون باساليب عمل ستالينية ولا علاقة لهم بالديمقراطية. وكانت ممارسات قسد وغيرها من استطالات حزب الاتحاد الديمقراطي هي تأكيد على الاستبداد والارهاب بحق المواطنين من اغتيالات وقتل وحرق قرى وتهجير عرقي، علما أنهم يتبجحون بشعارات الاخوة والديمقراطية والعدالة. وهذا يذكرنا تماما بشعارات حزب البعث المزيفة وعصابة الاسد التي تدعي مقاومة الامبريالية والكيان الصهيوني، بالرغم من ان تلك العصابة حمت حدود الكيان الصهيوني 50 عاماً، وقمعت السوريين وكرست العبودية ونهبت اموال البلد وتعاونت مع “الامبريالية” الامريكية في السر والعلن.
8- التدخلات الخارجية بدون استثناء كلها ساهمت في اطالة عمر الأزمة واعاقت الثورة عن تحقيق اهدافها. فهناك قوى خارجية دعمت النظام بشكل سافر مثل ايران وروسيا وبشكل مستتر مثل العراق. وهناك دول اتخذت موقفاً ملتبساً أقرب إلى النظام مثل لبنان والجزائر ومصر والاردن.
9- أما الدول العربية الخليجية التي قدمت الأموال ودعمت فصائل اسلامية مسلحة فقد سعت لتحقيق أجنداتها اكثر منه لخدمة الثورة، والدليل أان تلك الفصائل المسلحة كانت تقمع الناشطين وتعتقلهم وتتقاتل فيما بينها. كما أنها لم تحارب النظام بشكل حقيقي وأصبح قادتها أمراء حرب مقرفين ، إلى أن وصل بهم الأمر الى بيع الثورة والتفريط بحق الشعب السوري الثائر.
10- أما تركيا، التي استقبلت ملايين السوريين وقدمت لهم خدمات انسانية كبيرة لا يمكن تجاهلها، وأصدرت تصريحات قوية في بداية الثورة ضد النظام ، فإن سياستها لم تكن ثابتة بل تقلبت كثيرا (ولهذا أسباب خارجية وداخلية) إلى ان اضطرت للتحالف مع روسيا (حليفة النظام) واصبحت تركز على أمنها القومي متراجعة عن دعم الثورة (يكفي ان نذكر تسليم حلب الشرقية للنظام ومفاوضات استانا ومناطق خفض التصعيد التي خدمت جميعها النظام).
11- اما اوروبا فلم تلعب دوراً يذكر بسبب تأثرها وتبعيتها للدور الأمريكي الضبابي في ظاهره والأقرب للنظام في جوهره.
12- وهنا نصل الى اللاعب الأكبر وهو الثنائي أمريكا- اسرائيل، الذي يضع الخطوط العريضة ضمن مشاريع لا يخفيها عل أحد ويعلنها لنا لكننا نتجاهلها ولا نقرأ السياسة ولا نستفيد من دروس التاريخ.
فهناك مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، الذي اعلنه شمعون بيريس وأيدته كونداليزا رايس في السنوات الماضية. فهل يصدق عاقل أن شخصيات اسرائيلية وأمريكية بارزة من صناع القرار، تطرح هذه المشاريع للتسلية. وأعرف أن هناك من يقول أن كلامي يعبر عن ايماني بنظرية المؤامرة، التي تشير الخلافات بين اللاعبين في المشهد السوري إلى عدم وجودها. ولكن الحقيقة ان التفاهمات (الخطط والاستراتيجيات) هي بالخطوط العامة. وهذا لا يستثني الاختلافات والصراعات ولو على مستوى الخطاب المتعلق بالتفاصيل. ويتضح من متابعة الاحداث والمواقف منها بأن المنفذين للخطة الامريكية الاسرائيلية هم ايران وروسيا والنظام وبقية دول المنطقة بدرجات متفاوتة وبأدوار مختلفة.
انظروا كيف خلق الامريكان واتباعهم لدول الخليج مشاكل وأزمات استفادوا منها وافادوا عدو الخليج الاساسي وهو ايران:
- فالتدخل في اليمن أبعد المملكة العربية السعودية عن الملف السوري وخدم ايران.
- وجاءت الازمة الخليجية والحصار على قطر لصالح ايران ايضا.
- وكل الأحداث في المنطقة تخطط لها اسرائيل وامريكا وتنفذها ايران ودول عربية واقليمية. والهدف من هذه الازمات والمشاريع هو ابتزاز دول المنطقة مادياً، والحفاظ على حالة الفوضى والاقتتال والتدمير والتهجير، التي نتيجتها اعاقة اي تقدم للعالم العربي والاسلامي (هذا ان كان مخططا لذلك التقدم اصلا)، بالرغم من الثروات الهائلة التي يمتلكها ، وكذلك الحفاظ على الانظمة الديكتاتورية باشكال مختلفة لتقييد طاقات شعوب المنطقة.
وقد يتساءل أحدهم لماذا سورية؟ وهذا سؤال مشروع. هل هو الحظ أم ماذا؟
اعتقد بأن سورية تتمتع بموقع جيوسياسي مهم، ولان اسرائيل- كدولة استيطانية توسعية وحليفة للغرب- مجاورة لسورية. كما أن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفيتي (الذي قطع علاقاته الدبلوماسية مع اسرائيل عام 1967 وتمت استعادتها بعد تفككه 1991). فروسيا اليوم تعتبر أمن دولة اسرائيل أولوية رقم واحد لها. وما المانع من أن تخطط اسرائيل لتحالف استراتيجي مع روسيا (أشار إليه بوتين مرة) والهيمنة على المنطقة (القمة الأمنية الثلاثية الأمريكية الاسرائيلية الروسية الأخيرة في اسرائيل اكبر دليل على ذلك).
13- أما تركيا فهي دولة قوية اقتصادياً وعسكرياً وقادرة على التمرد على القرارات الأمريكية. وهي عضو في حلف الناتو ولا يمكن محاربتها بل يمكن ازعاجها اقتصاديا وسياسياً مثل محاولات قلب الحكم، كما شهدنا منذ سنوات . ويمكن الاستنتاج بأن كل ما جرى في تركيا وحولها، خدم مشروع “الشرق الاوسط الجديد”، لأنه دفعها للتحالف مع روسيا والانخراط في مخططاتها، من تسليم حلب الى مفاوضات استانا الى مناطق خفض التصعيد، التي كانت بلا شك لصالح النظام السوري، وبالتالي انشغلت تركيا بشكل كبير بأمنها القومي، وهي محقة، لأن الامريكان نفسهم دعموا وشجعوا ميليشيات قسد المأجورة لتهدد أمن تركيا وتهدد مستقبل سورية. لكن تركيا دولة ديمقراطية لديها رئيس ذو خاريزمية قوية، وليس من السهل تركيع الاتراك واجبارهم على التبعية كما هو حال الدول العربية المنبطحة. ولا نريد التدخل في الشأن الداخلي التركي، ولكن من الضروري الاشارة إلى وجود أخطاء ارتكبت، وتحدثت عنها شخصيات سياسية مهمة في تركيا، اضعفت من موقف تركيا واجبرتها على الاتجاه نحو روسيا والتنازل عن كثير من مواقفهاالمعلنة سابقاً تجاه الثورة السورية.
ويبقى السؤال الأهم: هل تكتفي النخب الوطنية السورية، من مثقفين وناشطين وثوار، في توصيف ما جرى، على اهميته لفهم ما وصلنا إليه ولاستشراق المستقبل؟ أم ماذا؟
على ضوء ما جرى ويجري من نشاطات دولية سياسية وأخرى ميدانية على الأرض، نجد أن السوريين لم يتخلوا عن ثورتهم. وقد انعكس ذلك في المظاهرات التي تعم المناطق المحررة وحتى في مناطق النظام وقسد. وتطبيل البعض للجنة الدستورية والإيهام بامكانية تحقيقها فائدة للسوريين مشكوك فيها، فهناك تحديات جدية من جانب النظام، ولكون اللجنة نفسها ضعيفة البنية، وللهيمنة الدولية على القرار السوري.
ومن واجب السوريين الأحرار الاستعداد لمرحلة مصيرية قادمة وذلك بابراز الصوت الوطني المستقل، الذي يمثل إرادة الشعب السوري وثورته العظيمة. فالحياة مستمرة والثورة مستمرة .
أما الاجندات المعادية المهيمنة حالياً، لا بد أن تنتهي ، وسيتمكن شعبنا من الحفاظ على وحدة وطنه. ولكن ذلك يحتاج من كل الشرفاء السوريين المؤمنين بالهوية الوطنية السورية، من كافة المكونات، أن يدافعوا عن مستقبل وحدة واستقلال سورية من كافة الاحتلالات، بحيث تكون سورية دولة حرة مدنية ديمقراطية تعددية يعيش فيها مواطنون أحرار.