ما هو الشجرة؟

بقلم وائل الناصر

image

 

[arabic-font]قالَ إبراهيم بن هانىء:( ومن تمام آلةالقَصص، أنْ يكون القاصُّ أعمى ).
لو أخذتَ قصَّة الطفل الذي تحدَّثَ عنه الأستاذ (ميشيل كيلو) : ما هو العصفور؟
ما هو الشَّجرة؟
وتأخذ هذا الطفل لتجعلهُ يروي قصَّة.
تجريدهُ للشَّجرة المؤنَّثة ب( ما هو الشَّجرة ؟) هو الذي سيُعطي الهيكليَّة الغائبة لتآخي العمى الشُّعوري بأسماء الواقع مع الذَّات الطفليَّة الغائبة في العمى، الذي بدأَ قسريَّاً وأصبحَ فعلاً اعتياديَّاً معاشاً.
حينها أدركتُ أنَّ ابن هانىء يُؤَصِّلُ للجدَّة والإبداع في العمل الروائي والذي لم يكن قد سُمِّيَ عملاً روائيَّاً آنذاك وكان اسمه القصص والروائيُّ يُسمَّى قاصَّاً.
لأنَّكَ حين يكون إحساسُكَ بما تروي، من قبيل إحساس الطفل السُّوري صاحب ( ما هو الشَّجرة ؟) مع شخوصكَ ومشاهد عملكَ الرِّوائي، حينها تستطيع أن تأتيني بعملٍ مختلفٍ ومميَّزٍ ولا يكون تكراراً مملَّاً وتقليداً متعسِّفاً لأدب الغير.
هناك فيلم سينمائي إنكليزي، شاهدته منذ مدَّة ولا أذكر اسمه، بطل الفيلم مخرج سينمائي حياته الفنِّية متوقِّفة على الفيلم الذي سيُخرجه، في بداية عمله يُصاب بالعمى المؤَقَّت، ويسقط الأمر من يده، ومع اقتراب وقت تسليم الفيلم لشركة الإنتاج، يقوم المخرج الذي أخفى فقدانه لبصره عن الممثِّلين بإخراج الفيلم، وحين يعرض الفيلم ينال قسطاً وافراً من الشَّتم من الإنكليز، ولكنَّ المخرج يتلقَّى اتِّصالاً من شركة سينمائيَّة فرنسيَّة يخبرونه بأنَّ فيلمه نال رواجاً كبيراً في فرنسا، فيصرخ فَرحُ المخرج: شكراً لله لأنَّه خلق على هذه الأرض فرنسيين.
ما قصدته من ذكر هذه القصَّة، ليس من باب أخذ الأمور على عماها، ولكن لأنَّ عماء المخرج ترك الممثلين الذين يحفظون أدوارهم على عفويَّتهم، هذه العفويَّة هي التي خلقت له جمهوراً.
أنتَ حين تقصف الزَّمن وتُجدِّد الخبطة العشوائيَّة لواقعٍ رأيتَهُ مراراً ولكنَّكَ بحسِّكَ الأعمى تخلقهُ واقعاً آخرَ لا ينتمي لتكراريَّتكَ التي تعيشها، حينها أضعُ قلبي أمام فنِّكَ وأقولُ لكَ بقلبٍ أعمى: لقد أبصرْتُكَ.
حين يوضَعُ الرِّوائيُّ في التابوت ويُحمل على الأكتاف وهم يقرؤون عليه دموع وداعهم له في طريقهم إلى قبره، إذا كتبَ الرِّوائيُّ روايته في هذا الزَّمن المحصورِ المسافة، من مكان موتهِ إلى قبره فقد نجح، ويكون بذلك جسَّدَ الحسَّ الإبداعيَّ الصَّادق لقولٍ قالهُ طفلٌ سوريٌّ أسَّسَ لنا طريقاً يشقُّ عصا الطَّاعة على كلِّ طاغيةٍ ويضعُ كلَّ ميراث الفنِّ الإنسانيِّ في ميزان ( ما هو الشَّجرة؟).
(كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه …الخ)
واللُّغة كذلك، تولد على الفطرة فأبواها يسيِّسانها، ويُنمِّقانها، ويُكشِّرانها، ويُميِّعانها، والكاتب الصَّادق هو الذي يُعيدنا بكتابته إلى فطرة اللُّغة، إلى فطرة ( ما هو الشَّجرة؟).
فأنتَ حين تبني سفينةً في الصَّحراء، سيسخرُ منكَ الناس، وهذا حقُّهم أنْ يسخروا، لأنَّهُ عملٌ مُنافي للحكمة، ولكنَّكَ إذا علمتَ أنَّ من يبني السَّفينة هو نوحٌ عليه السَّلام، وإذا علمتَ أنَّ نوحاً هو نبيُّ الله المرسل إلى قومه، ستعرفُ أنَّ في الأمر حكمة، لكنْ ماذا لو قلتُ لكَ، إنِّي أرى بظنِّي أنَّ نوحاً لم يكن يعرفُ لماذا أمره ربُّهُ أن يبني سفينةً في الصَّحراء؟
هو أطاع الأمر الإلهي، وكان قومهُ يمرُّون عليه ويسخرون منه، وحين ضاقَ بهم ذرعاً قال لهم: إنْ تسخروا منَّا فإنَّا نسخر منكم كما تسخروا منَّا، ولا أعتقد أنَّ جواب نوحٍ عليه السَّلام له علاقة بمعرفته بالطُّوفان.
ومن هنا نلاحظ أنَّ عصرنا هذا، هو عصر العودة بالسينما من التقنيَّة العالية في التَّصوير والمؤثِّرات السَّمعيَّة والبصريَّة، إلى فطرة الصَّوت والصُّورة، إلى الفِّطرة البشريَّة في عفويَّتها.
لأنَّ الصُّورة كلما كانتْ أقرب من العفويَّة البشريَّة، كلَّما كانت أجمل وأعمقَ حضوراً في القلب، والعفويَّة هنا، ليست البسيط جدَّاً، والمكرَّر جدَّاً، وإنَّما البسيط المذهل، المدهش في عفويَّته وفطرته.
لذلك فإنَّ مصطلح (الميتاسرد) لا يخرجُ عن هذا الكلام الذي قالهُ طفلُ (ميشيل كيلو) : ( ما هو الشَّجرة؟)، الميتاسرد هنا أن تطلبَ من هذا الطِّفل السُّوري أنْ يحكي لنا حكايةً، هذا الطفل الذي خرجَ من معتقل الرَّحمة والحنان، من رحم أمِّهِ، ليجدَ نفسهُ في معتقل الظُّلم والقهر والقسوة، معتقل الطغاة، هذا الطفل سيفقد قدرة التخيُّل المُترف، المُرفَّه، فربَّما تخيَّلَ العصفور حذاءً أو رغيف خبز.[/arabic-font]

عن شباب بوست

انظر ايضا

قف قف من انت

قِف..قِف.. من أنت؟

قِف..قِف.. من أنت؟ بقلم وائل الناصر كانت ليلةً باردةً،الساعة الواحدة ليلاً،ألفُّ نفسي بنفسي في الخيمة،مع …

اترك تعليقاً