ثقافة التسامح بيننا وبين انفسنا

ثقافة التسامح بيننا وبين انفسنا – محمد الأحمر

محمد الاحمر– سفير التسامح- المدير الاعلامي لاكبر كتاب في العالم “هذا محمد”

 

ثقافة التسامح بيننا وبين انفسنا

 

      قَد لا أُبالِغُ كثيراً إنْ قُلتُ أَنَّ كلِمَةَ التَّسامُحِ أصبَحَتْ مِن بينِ أكثَرِ الكلماتِ تَداوُلًا بينَ النَّاسِ وكل المَحافِلَ، واستُخدِمَت اكثر بمعنى التَّعايُشِ السِّلميِّ والتّسامَح الدّينيّ، وطبعاُ ما يُرمى إليهِ مِن هذهِ الألفاظِ مغايرٌ لمفهومِهم، ولا شكَّ أنَّ هذا الفَهْمَ هُوَ اختِزالٌ لمفهُومِ التَّسامُحِ، إذْ إِنَّ لهذِهِ الكَلِمَةِ دلالاتٌ أوسَعُ بكثير، قد لا يَصِلُ ذِهنُ البعضِ إلى تصوِّرِها، وسيتمَّ في هذا المقالِ تناوُلُ معنى هذهِ الكلمةِ لغةً، والتَّعريجُ على بعضِ استخداماتِها في واقعِ الحياةِ اليوم.

    التَّسامُحُ لُغَةً مصدَرٌ مشتَقٌ من الجَذرِ الثُّلاثِيّ (سَمَحَ)، وسمحَ الشَّخصُ أي جادَ وأَعطى عَنْ كَرَمٍ وسَخَاء، وزيادةُ التَّاءِ والألفِ على الفِعل تفيدُ معنى اقتسام الفاعليةِ أو التّشارك، وقد تكون بمعنى فاعَلَ أي بمعنى تسامَحَ، نقولُ:  تسامَح فلانٌ مع فلان، أي جاهدَ نفسَهُ وأجبرها على العفوِ وإظهارِ السَّماحِ ولينِ الجانب، فبَذَلَ الوُسعَ لتطهيرِ  نفسِهِ وتنقيتِها من الحِقدِ والغِلِّ وحملها على مسامَحَةِ الآخر.

     من خلالِ ما تَقَدَّم، نرى أنَّ التَّسامُحَ يكونُ عن كَرَمٍ وطيبِ نَفس، وليسَ شَرطَاً أنْ يكونَ للمُسامَحِ حقٌّ على المُسامِح، بلْ لا يَكونُ غالباً، ولكنَّ المتسامِحَ يعفُو ويصفَحُ كرماً وجوداً، ورغبةً في تطهيرِ النَّفسِ ، فَيرِتاحَ الضميرَ وضميرَ مَنْ أساءَ كونَهُ -أيْ التّسامُح- مِنْ أعمالِ القلوب.

    مَنْ نُسامِح؟ ولماذا نُسامح؟ قد تستغرِبُ إنْ قلتُ لكَ إِنَّ أولَ شخصٍ ينبغي أنْ تسامِحَهُ هُوَ أنت فمَنْ يقسُو على نَفسِهِ ويجلِدُها باللّوم، يجلِدُ غيرَه، وقدْ يبالغ في لَومِها، وهذا لا يَأتِي إلّا باليَأسِ مِنْ نفسِك، فتحسُّ بالأسى والضَّياع، وقد يدفعُ البعضَ إلى الرَّغبةِ في الموتِ والانتحار، لأجل هذا يجبِ أنْ تُسامِحَ نفسَكَ لتحصُلَ على السَّلامِ الدَّاخليِّ ولتصنعَ السَّلامَ الخارجيَّ مع مَن حولكَ بِلطفِ تعاملكَ، وحسنِ أخلاقِك.

     يقولُ بعضُ فلاسفَةِ الغربِ أمثالَ جون ستيوا في كِتابِهِ الشَّهير “اونليبرتي”: “إِنَّهُ من الطَّبيعيِّ جداً أن لا يتسامح المرءُ إزاءَ ما  يأخُذُهُ بِجِدِّيَّة” فهل هُناكَ ما هو أكثرُجِديَّةً عندَ الإنسانِ من نَفسِهِ، ويقولُ العالِمُ “ولديونرب” في  كتابِهِ الشَّهير “قصَّةُ الحضارة”: “يُولَدُ التَّعصُّبُ مع انبثاقِ اليقينِ وينتعشُ التَّسامُحُ مع ضَعْفِ الإيمان”، وقد ذكَرَ ذلكَ في ثلاثَةِ مواضِع، ولمْ يكتَفِ بذلك، بل إنَّهُ وصَفَ المتسامِحَ  بأنَّهُ شخصٌ سلبيٌّ، لا مبالٍ، وإلا فإنَّه لن يتسَاهَلَ في التَّسامِحِ مع الآخرين، كما قالَ “شربل لوقا” قسيسُ كنيسةِ الشفاءِ في لبنان، “إِنَّ التَّسامحَ  و صناعةُ السَّلامِ ما هيَ إلا كذبةٌ ولا تسامُحَ بدونِ مساومَةٍ وتنازُلِ الآخرين عن عقائدهم وأتباعُ المسيحِ لأنَّ كلَّ المسيحيينَ أبناءُ اللهِ وعلى كلِّ العالَمِ احترامُ أبناءِ اللهِ”. لكنَّ السّؤالَ هُنا: هلْ يجوزُ الأخذُ بهذهِ الفلسفات واعتبارِها مرجِعاً؟ أم أَنَّ هُناكَ منْ الأحكامِ المنبثِقَةِ مِن مختلف العَقائد ما يُغني عَن كلِّ هذهِ الفلسَفَات؟    

     لو رَجَعنَا إِلى مَصادَر التَّشريعِ في الأديانِ السَّماويَّة (القرآنُ الكَريمُ والسُّنَّةُ النَّبَويّة في الإسلامَ، والكتابُ المقدَّسُ عندَ المسحيين)، لوجدْنا أنَّ كلّ المصادِرِ تَحُثُّ على العّفوِ والتَسامُحِ وإظهارِ اللين، وتيسيرِ أمورِ النّاس، وخيرُ مثالٍ على ذلكَ آياتُ التَّسامُحِ في سورةِ البَقرةِ في القرآنِ الكَريم، وكذلك في الكتابِ المقدَّسِ “صمويل الأول: الإصحاح 30.

     “التَّسامُحُ زينَةُ الفضائِلِ” هذا ما قالَهُ المفكرُ “فكتوريان”، وهذا متفقٌ عليهِ عندَ أصحَّاءِ النُّفوس، ولكنْ هل مِنَ السَّهلِ أَنْ نُسامِحَ ونعفوَ ونَتَجاوَزَ عَن الإساءَاتِ التي قَدْ تُرتَكَبُ بِحَقِنا؟ إنَّ القُدرَةَ على المُسامَحَةِ تختَلِفُ مِنْ شخصٍ لآخَرَ ومِن مَوقِفٍ لآخر، فكما أنَّ النَّاسَ مختَلِفونَ في ألوانِهِم وأشكالِهِم، فإنَّهُم مختَلفُونَ في طبائِعِ  نفوسِهِم، ودرجَةِ تقبُّلِها للإساءَةِ الواقِعَةِ على النَّفس، وطبائِعُ النُّفوسِ إما أَنْ تَكونَ جِبِلَّةً خُلِقَ عليها المَرءُ في رَحِمِ أُمِّهِ وإِما أَنْ تَكونَ على ما تربَّى في أسرَتِهِ ومجتَمَعِه.

       كيفَ تَكونُ الإساءَة؟ قدْ يَظُنُّ البعضُ أنَّ الإساءَةَ دائماً تكونُ ماديَّة، بتعدي المُسيء على حاجَةٍ من حاجاتِ الآخرينَ الماديَّة أو الجَسَدِيّة، ولكنَّ الواقِعَ أنَّ الإساءَةَ قدْ تكونُ بالقولِ، كما تكونُ بالفعلِ أو بالتَّصرُّفات، وقد يكونُ عدَمُ الاهتمامِ والتَّقديرِ لفعلٍ أو إنجازٍ عظيم إساءةً وإيذاءً للنَّفسِ، ومن خلالِ ما تَقَدَّمَ يمكِنُنا أنْ نعرِّفَ الإساءَةَ بأنَّها كلُّ ما يُلحِقُ الضَّرَرَ والأذيَّةَ بالنَّفسِ أو بالجسد، سواءَ كانت مقصودةً أو غيرَ مقصودَةُ. وهُنَا سَوفَ أُعَرِّجُ على أكثرِ أنواعِ الإساءاتِ التي قد يتعرضُ لها الإنسانُ في حياتِهِ، مُرَتِبَاً إيّاها حَسْبَ صعوبَتِها ووقعِها على النَّفسِ (باستثناءِ اقترانِ الخطأِ بعنصرٍ الوسوسةِ من شيطاطينِ الإنسِ والجنِ الذينَ يزيدونَ الطَّينَ بِلَّة):

النّوعُ الأوّل: إذا وَقَعَ علينا ظُلمٌ قاسٍ، مثلُ أَنْ نسجنَ ظلماً لذنبٍ لم نقترفه، كحالِ سيدنا يوسف –عليه السّلام- عندما سُجِن، فنكون قَد دفعنا ثمنَ خطأِ شخصٍ ربما لا نعرِفُه ولا علاقَةَ لنا به، فهل نستطيعُ أنْ نسامِحَ مَن وَضَعَنا في هذا المَوقِفِ لنشعُرَ بالسَّلام؟

النوعُ الثّاني: إذا كانَ الخَطَأُ لا يمكنُ تدارُكُه، وبارتكابِهِ تفقدُ شيئاً لا سبيل لِعودَتِه، كشخصٍ تسبَّبَ لكَ في عاهةٍ مستديمة، فهنا تزدادُ صعوبَةُ العَفو، لأنَّ نتيجَةَ الخطأِ لا يمكنُ أنْ تُصحح، فلا أحدَ بإمكانِهِ أن يعوضكَ عن يدٍ فقدتها.

 النّوعُ الثّالث: عندما يخيبُ ظنُّنا في مَن نُحب، فيحدُثُ أن تعتقدَ في شخصٍ ما أنَّهُ قريبٌ لقلبكِ كأخٍ أو صديق، ثم يتضحُ لك فيما بعدُ أنَّه يبغَضُك، ثم يخطِئُ بحقِك، فتزدادُ خيبَةُ أملك، ويزدادُ الألم.

النّوعُ الرَّابع: لعلَّ تكرارَ الخطأ  تجاهنا أكثرَ من مرَّة، مع استمرارنا في المُسامحةِ، يزيدُ من صعوبةِ التَسامُحِ والغُفران، أضفْ على هذا، أنَّك تفقدُ الثِّقَةَ بالطَّرِفِ الآخر، وهنا يجبُ أنْ نَضَعَ حَدّاً لأخطائِهِ وإن سامَحناه.

 النّوعُ الخامس: عدمُ إحساسِ المخطئ  بخطيئتهِ، فقد يكونُ مَنْ أجرَمَ بحقِنَا لا يرى أنَّه أخطأَ حتّى بعدَ العِتابِ وتوضيحِ الموقِفِ، وتبريرُهُ لخطئِهِ يزيدُ الألمَ في النَّفسِ، على عكسِ ما يحدثُ لو أنَّ الشّخصَ اعتذر، فالاعتذارُ يليِّنُ الأجواءَ ويُطيِّبُ نفوسَ المُتحابين، ويساعدُ على إنهاء التَّوتُرِ والخِلاف.

النّوعُ السادس: عندما نرى أنَّ مَن أخطأ بحقنا لم يَحصل على العقابِ الذي يستَحِقُه، بل ويُنظرُ إليه ممَّن نُحبهم على أنَّهُ المحقُّ وأنَّنا المخطئونَ دوماُ في كلِّ المواقف.

 

      على الرَّغمِ من أَنَّ غُفرانَ الإساءاتِ المقصودَةِ أهوَنُ على النَّفسِ من غفرانِ الإساءاتِ غيرِ المقصودة، لكنَّها حينَ تتكرَّرُ تصبِحُ خطيئَة، وهذهِ الإساءاتُ الأكثرُ شيوعاً وانتشاراً لأنَّ المخطِئ لا يُدركُ أنَّه أخطَأ حتى يتدارَك نفسَهُ بالاعتذار. وقد يَكون الخطأُ بسببِ سوءِ تفاهُمٍ سبَّبَهُ سوءُ الظَّنِ وتحميلُ الكلامِ ما لا يحتمل، وسوءُ الظَّنِّ حينَ يقعُ مِن المُقربين يكون أقسى على النَّفسِ مما لو وقعَ مِن غريبٍ، لأنَّ الغريبَ لا يعرِفُكَ فتعذُرُه. وقد تحصلُ بعضُ الإساءاتِ بسببِ الأنانيَّةِ، كأنْ يأكُلَ أخٌ حقَّ أخاه في الميراثِ أو في غيرِه.

      هذا بالنِّسبَةِ للإساءَاتِ التي تقع علينا نتيجةَ علاقتِنَا معَ النّاس، أما بالنّسبَةِ لعلاقتِنا معَ أنفسِنَا، فقد تنتُجُ عنها إساءات، فأنتَ تسيءُ لنفسكَ وتخطِئُ بحقِّها حينَ تعتبرُ أنَّكَ ذو حظٍّ سيٍّء وأنَّ القدرَ قْد ظَلَمك، فنتحَوَّلَ من شَخصياتٍ إيجابيَّةٍ إلى شخصيَّاتٍ سَلبيّة.

     كيفَ يُمكنُنا مسامحَةٌ الآخرين ؟ قد يلجأُ البعضُ للحِيَلِ النّفسيَّة، محاوِلينَ تناسي الأخطاءِ وتجاهُلِ المواقفِ السيئةِ التي أزعجتهُم، مِن أَجلِ الاستمرارِ بالعيش، ولكن دونَ غفرانِ ومسامحةِ الطرفِ الآخر، لذا نجد في حالِ تِكرارِ الإساءةِ للشخصِ -وإن كانت إساءةً عن غير قصد- سوفَ يحدثُ لدى هذا الشخصِ انفجارٌ بسببِ الغضبِ الدَّاخليِّ المكتومِ و المتراكم بسبب بالإساءات السَّابِقَةِ التي تَظاهَرَ بنسيانِها.

 

     لذا لا بدَّ من إيجادِ طريقةٍ لمسامحةِ الآخرينَ والعفوِ عن إساءاتِهم، مهما تعاظَمَت قسوَةُ الخطيئةِ على نفسوسِنا، فقسوةُ عدمِ نسيانِ الإساءةِ أعظمُ على النَّفسِ، لأنُه يجعَلُكَ تعيشُ في حالةٍ من  التَّخبطِ والحيرةِ والقلقِ الدّائمِ الذي هو معضِلَةُ هذا العصر، والذي ربما يدفَعُنا لارتكابِ أخطاءَ كثيرةٍ تحولُ بيننا وبينَ الوصولِ إلى السَّلامِ الحقيقيّ، كما وتفتحُ المجالَ للكوابيسِ والتفكيرِ الظَّلامِيَ الذي قد يوصل للانتقام، وقد يؤدي أيضاً -في حالاتٍ نادرةٍ إلى كُرهِ الشَّخصِ المظلومِ نفسه ولا نغفلُ عن ذِكر أَن الاضطراباتِ النَّفسيَّةَ قد تؤدي إلى اضطراباتٍ عضويَّةٍ، ولا سبيلَ للخلاص من ذاكَ التَّخبّطِ سوى حملِ النَّفسِ على التسامح و الغفران ، حتى نعيشَ بسلامٍ مع الذَّاتِ والآخرين، فقد يكونُ ما اعتبرناهُ إساءةٌ عيباً عندنا لا ندركه، فلا بدَّ أن نغفرَ ليُغفرَ لنا، فمن نحنُ حتى نعتبرَ أنفسنا أناساً لا يُساءُ بحقهِم، فإذا كنَّا نحنُ أنفُسُنَا نُخطئ بحق ذواتِنا، وإن كنا نخطئ بحقِّ الخالق فيغفِرُ لنا، فمن نحنُ حتى لا نَغفِرَ للنَّاس ونسامِحَهم!.

 

     وعندَ بحثِي عن نموذَجٍ أستعرِضُه لأكثرِ الشَّخصيَاتِ تسامُحَاً وحِلماً على النَّاس، وجدتُ أنَّ الأنبياءَ بشكلٍ عام هُم أكثرُ النَّاسِ تسامُحاً معَ خَلقِ الله، وأَخُصُّ بالذِّكرِ رسولَنا الكريمَ محمّداً (صلّى الله عليه وسلّم)، ونبيَّ اللهِ داوودَ ونبيَّه يوسُفَ عليهما السّلام، ولعلّ من نافِلةِ القولِ أَنْ نذكرَ سرَّ تسامِحِهِم مع ذواتِهم ومَعَ خَلقِ الله، ألا وهو الإيمانُ بالله. فَهُم قد أيقنوا أَنَّ الإساءاتِ بحقِّهم إنَّما هِيَ امتحانٌ وابتلاءٌ من الله، وأيقنوا أيضاً أنَّ نيلَ رِضا اللهِ لا يكونُ إلا بالغفرانِ والحِلم، ومن نالَ رِضا الله،

     فمن ذا الذي قد يُضيرُهُ مِن  خَلقِ الله؟

 

     ولا بدَّ لنا مِن جَعْلِ الخطيئة محلَّ التَّركيزِ، فلو جعلنا المخطِئَ محلَّ تركيزِنا لَما سَامَحْنَا أحداً قطّ، فقد يكونُ المخطِئ سيئاً بطبعِهِ،فيستَحيلُ أنْ نحبَّه، ومن مثلِ ذلكَ مشكلةُ سيدنا يوسُف -عليهِ السَّلام- معَ إخوتِه، فلو كان محلُّ تركيزِه على إخوتِه وما حصلَ لوالِدِهِ بُعيْدَ ما فعلوه بأخيهم يُوسُف، لسجنَهم لكنَّهُ رَكَّزَ على حكمةِ اللهِ من خطيئةِ إخوانِه فقادَهُ ذلكَ إلى غفرانِها، زد على ما سبقَ أنّنا لو استحضرنا كَمَّ المواقِفِ والشخوصِ التي أحسنَت إلينا أكثرَ مما نستَحِق، لَحَمَلَنا ذلكَ على الصّبرِ والتَّحمُّلِ والتَّجاوُزِ عمّن ظَلم، ومعَ أنَّ الخطيئَةَ قد تُسيءُ لسمعتنا، وربما تنقِصُ مالنا، ولربما تبعِدُ أحبَّ النَّاسِ إلينا عنّا، ولكنَّ مَنْ يسامحُ سيعيشُ بسعادةٍ وراحة. ومَنْ أفضلُ خُلقاً من أطْهَرِ خلقِ اللهِ محمّدٍ (صلّى اللهُ عليهِ وسلّم)، رسولُ السّلامِ والتّسامُحِ الذي سامحَ وغفرَ لكلِّ من أخطَأَ بحقِّه، فها هو يسامِحُ أبناءَ قريشَ والطّائف، ويمنعُ الدَّعاءَ عليهم، علّه يَخرُجُ من أصلابِهِم ذريَّةً تُوَحِّد الله، وها هو يُعَلِّمُنا أن ندعُوَ لأنفسِنَا والآخرينَ بالهدايَةِ وإن كرهناهُم، لأنَّ كُرهنا لِمَن يكرَهُنا أو يُسيءَ إلينا سيجعلنا مثلهم، فيذهبُ بذلكَ التَّفاضُلُ والإحسانُ بينَ النَّاس، وبذلك تنتشرُ البغضاءُ والغلِّ في القلوب، لذلك نَدعُو لهم بالهدايةِ وندعو بأن يُلينَ اللهُ قلوبنا تُجَاهَهُم، فلعلّنا إن غفرنا لهم نتغيّرُ ويتغيّرون.

 

      وختاماً لا بدَّ مِن الإشارةِ إلى وجوبِ العتابِ وخاصَّةً بين المتحابين، فحتى إنْ أردتَ المسامحةَ عاتِب بعدَ أن تهدأَ نفسُكَ ويهدَأ غضبُك، فإنَّ العِتابَ يُخففُ على النَّفس، ولعلّ الخطأَ يكونُ نتيجَةَ سوءِ تفاهُم، فتستنتجُ فيما بعد أنَّ غضبَكَ لا داعِيَ له أَصلاً، فإنَّهُ إذا استمعَ إليكَ من أخطأَ بحقكَ فقد ربحتَ ومنعتَ بذلك وسوسة الشيطانِ، وإن لم يستمع إليك، فسامِحهُ وابتعدْ عنهُ لألّا يستمَّر بأذيَتِكَ، وادعُ له بالهدايةِ والرَّحمة، ولا تبتئسْ فإنَّ الغُفرانَ لا يُلغي حقكَ عندَ الله، واعلمْ أنَّ بابتعادِكَ عمّن يسيءُ إليكَ منفعَةٌ لكما، لأنَّك إنْ لم تبتعد استمرَّ بإساءاتِهِ وحمَّلَكِ ما لا قِبَلَ لطبيعتِكَ البشريّةِ على احتمالِه، وأختمُ بقولِ جواهر لال نهرو: “النّفوسُ الكبيرةُ وحدها تعرفُ كيفَ تُسامِح”.

 

عن شباب بوست

انظر ايضا

قصة الفرنسي (أوديلون) و موائد الإفطار الرمضانية

ﺃﻭﻧﻮﺭﻳﻪ ﺃﻭﺩﻳﻠﻮﻥ، ﻣﺴﻴﺤﻲ ﻓﺮﻧﺴﻲ ﻳﻌﺮﻓﻪ ﺭﻭﺍﺩ ﺍﻟﻤﺴﺠﺪ ﺍﻟﻜﺒﻴﺮ ﻓﻲ ﺑﺎﺭﻳﺲ، ﺣﻴﺚ ﺩﺃﺏ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺸﺎﺭﻛﺔ ﻓﻲ ﺗﻤﻮﻳﻞ ﻭﺇﻋﺪﺍﺩ ﻣﻮﺍﺋﺪ ﺍﻹﻓﻄﺎﺭ ﺍﻟﺮﻣﻀﺎﻧﻴﺔ ﻟﻠﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﺩﺍﺧﻞ ﻭﺧﺎﺭﺝ ﺍﻟﻤﺴﺠﺪ ﻣﻨﺬ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺭﺑﻊ ﻗﺮﻥ