الشاعر عبود الجابري
الشاعر عبود الجابري

فطرة الكتابة …..مقال نقدي لوائل الناصر

وائل الناصر

فطرة الكتابة في نص”الهنديُّ الأحمر”
للشاعر العراقي عبود الجابري.
إني أرى في هذا النص فطرة الكتابة،نزوعها إلى السليقة البشريّة في أبهى حللها و أبلغ أحوالها،فكلما اقتربت لغة الشاعر من الفطرة،كلما ازداد بيانه كمالاً وسحراً،وقد قال ابراهيم بن هانئ،فيما رواه عنه الجاحظ في كتابه البيان و التبيين:ومن تمام آلة الشعر أن يكون الشاعر أعرابياً،لأن قوة وبلاغة اللغة العربية في قربها من الفطرة البشرية،فالفراهيدي حين وضع علم النحو وضعه على أساس كلام ذلك الأعرابي الذي يعيش في الباديةوالبلاغيون حين وضعوا علم البلاغة وضعوه على أساس ذاك الأعرابي حين حللوا وصفه لناقته وبيئته،و من هنا فإنه لا يقاس قوة البيان وجودته إلا من خلال مدى قربه من الفطرة البيانية التي فطر الله الناس عليها،وبسبب هذا الذي قلت،كان سبب اختياري لنص الهندي الأحمر للشاعر العراقي عبود الجابري،وهو من مجموعته”فكرة اليد الواحدة”الصادرة عن دار فضاءات،الأردن،2015.

الشاعر عبود الجابري
الشاعر عبود الجابري

“الشّمس في صندوقك
أيها الهنديّ الأحمر”
حرف الجر”في”يفيد استغراق الشيء في شيئه،ف”الشمس في صندوقك” الكاف في صندوقك ضمير متصل دال على المخاطب، و”أيها” أكدت اتصال الضمير بالهنديِّ الأحمر،وبما أن الشمس لا يستغرقها صندوق،فهذا يعني أن للشاعر غرضٌ بتحديده كلمة صندوق،و لأن “صندوقك”جاءت معرفة بكاف المخاطب،فهذا يعني أن الصندوق يخصُّ الهنديَّ الأحمر،وأنّ الصندوق هو كل ما يملك هذا الهنديّ الأحمر،وأثمن ما يملك،والشمس بما أنها في الصندوق،والصندوق هو سرّ وجود الهنديّ الأحمر،إذن فغرض الشاعر هنا،أنّ الشمس فيك أيّها الهنديّ الأحمر،وأنت مجرّد صندوق.
“سيسرقها منك
ذوو الوجوه الشاحبة
حين تنام.”
الذي جاء ليسرق الشمس منك،إنما جاء ليسرقك،فعامل الشاعر الكثرة الذين تمثلهم”ذوو الوجوه الشاحبة”معاملة المفرد،لإعطائهم هم وفعل السرقة منهم صفة الديمومة في الزمان،ف “سين”هنا تفيد استمرارية وقوع الفعل الآن وفي المستقبل،اذن،هي ليست سين المستقبل فقط،والسين هنا أيضاً،هي سين الشاعر لتنبيه الغافل “الهنديّ الأحمر”،والسين ممكن أن تكون سين المستقبل بالنسبة للشاعر وليست كذلك بالنسبة لذووي الوجوه الشاحبة وسرقتهم والهندي الأحمر،وكذلك بالنسبة لنا،نحن من نشهد فعل السرقة.
“ذوو الوجوه الشاحبة”شحوب وجوههم،يدلُّ على عدم انتمائهم لنضارة وجه الهنديّ الأحمر،وأنهم ظنوا أن سبب نضارة وجه الهنديّ الأحمر هو شمسه فجاءوا ليسرقوه،لأنّ الشمس فيه،”حين ينام” معناها حين يفقد انتماءه لوجوده،وصلته بما حوله،وأنهم بسرقتهم تلك،إنما يسرقون جمال شمس الفطرة المغروسة في داخل الهنديّ الأحمر.
“ليتكَ كنتَ صديق النسر
لتنثر حبّات الضوء على الأرض
حين يحملكَ بين مخالبه”
لو حاولت أن تتذاكى أيها القارئ وقلت:”ليتك كنتَ صديق” النمر””! ،النمر بدلاً من النسر،فأنصحكَ أنْ تخبِّئَ أذنيك،لأن الشاعر حتماً سيشدّكَ منهما معاً،وهو يعضّ على لسانه غضباً،لأنّ كلمة”النمر”هنا ستقتل المعنى الذي أراد،كذا لو وضعت الأسد و الفهد…الخ.
ذلك لأن النسر يرمز للعلو وصعوبة المنال،والعزة و الأنفة والقوة و السرعة والرؤية الواضحة،وهذا بالضبط ما يحتاجه الهندي الأحمر،لأنه يملك شجاعة النمر ولكنه لا يملك علوّ النسر ووضوح رؤيته.
“لتنثر حبّات الضوء على الأرض
حين يحملكَ بين مخالبه”
هنا يصفع الشاعر فهمي وفهمك ويبتزّ عقولنا،لماذا قال لنا”صديق النسر”ولم يقل “ضحيّته”، والنسر هنا أصبح في مقابل “ذوو الوجوه الشاحبة”والهنديّ الأحمر في قبضتهما،آآه،قفْ قليلاً،أيها القارئ،تأمل معي قول الشاعر:”حين يحملك بين مخالبه”نحن اتفقنا أن الشاعر قابل بين”ذوو الوجوه الشاحبة”و”النسر”فهذا معناه أنّ ما فهمناه من أنّ الشمس هي في داخل الهندي الأحمر،هو فهمٌ صحيح.
لكنْ،قفْ معي قليلاً،دعنا نتمهَّل،ولا نعجل الفهم،هو قال:”صديق النسر” ولم يقل “عدوّه” “ضحيّته”وأردف بعدها”لتنثرَ حبّات الضوء على الأرض” ،إذا قلنا إنّ الضوء الذي سينثره على الأرض،اكتسبه،لأنه صار صديقاً للنسر،فيكون بذلك ممتصّاً لضوء غيره،مهلاً،انتبه،صديقي،هو قال:”حبّات الضوء”والضوء لا يكون ضوءاً،إلا إذا كان مصدره من صلب الشيء الذي يصدر منه،فلو قصد الشاعر،أن صاحبنا الهندي الأحمر،أصبح ينظر بعين النسرلقال”حبّات النور”وليس “حبّات الضوء”وهذا يؤكد ياقارئي العزيز،مافهمناه سابقاً،أنّ الشمس هي في صلب الهندي الأحمر وهو إنما ينظر من خلالها،لا..لا تغضب أيها القارئ،أعرف أنّ الشّاعر لئيمٌ معي ومعك،ولولا لؤمه،كيف ستأتينا متعة قراءته،الآن اهدأ وفكّر معي،هو قال:”حبّات الضوء” ولم يقل”حبّات النور”،إذا عرفنا أنّ الضوء هو الذي يكشف العتمة لغرض الرؤية و أغراضٍ أخرى،وأنّ النور هو الذي يأخذ من الضوء ما يبعث الحياة في عينيه،ليعيش الحياة بما كُشِف له من نور جمالها،الآن سأقول لك كلاماً،ينير ما عتم من كلام الشاعر،”حبات الضوء”هي تأكيد على أنك لا تستطيع أن تضع أي حيوان آخر غير النسر،لأنك بذلك ستجعل الهندي الأحمر يغضب منك أيضاً.
“ليتكَ كنتَ
وحيداً
تنام على ركبة امرأتك
وتتناوبان

13094272_558297844341495_2643945994775582159_n
الشاعر وائل الناصر

على حراسة النوم”
لقد وقع ما حذّركَ منه الشاعر أيها الهندي الأحمر،لقد وقع صاحبنا بالأسر الآن وفقد فطرة حياته،أنا أبكي الآن،اعذرني أيها القارئ،وأنت حر،فإذا كنت من ذوي الوجوه الشاحبة،فإنك لن تعرف،لماذا أنا أبكي الآن؟
أن تكون “وحيدا” “وتنام على ركبة امرأتك” هذا ترف الحنان والدعة والأمان والفطرة الصافية تلك الشمس التي يريدون محوها منّا ومنك ياصاحبي،فطرتنا في أوطاننا،فطرتنا في ضحك أطفالنا،فطرتنا في غزلنا لنسائنا،لحبيباتنا،أيها القارئ لقد احترق قلبي،فطرة أبي و أبيك ،فطرة نومنا،أكلنا،شربنا،فطرة وجودنا،أرجوكم اعذروا ضعفي أمام عذاب هذا الكلام،واسمحوا لي أن أنتقل للمقطع الذي يليه.
“في ترتيبٍ آخر للنشور
سيقذفون بك خارج القيامة
وسيطلبون منك
إعادة تمثيل حياتك،
سيُصغون كثيراً
لإعجاز أصابعك
حين تعاود العزف
على سنواتك المتراخية،
وكيف استطعت
أن تلفت انتباه الموت
إليك
بكل ذلك الضجيج”
هل تلاحظون معي،أنه حتى الآن لا يوجد فعل ماضٍ في النص و لا حتى ما يدل على المستقبل،وإن وُجد حرف سين التسويف كثيرا في النص،وإنما يفيد لاستمرار الأحداث ودوام وقوعها،وفعل الماضي الناقص “كنت”لم يقع في الماضي وإنما حدوثه أيضاً يفيد وقع ويقع وما زال يقع وسيقع،لأنه جاء بعد فعل التمني “ليتك”.
جمال هذا المقطع،هو في محاولة معانيه وألفاظه إقرار حياة الهندي الأحمر ،بمعاني “ذوو الوجوه الشاحبة”وألفاظهم،وكيف جعلوها خارج الحضارة وخارج التاريخ،والهندي الأحمر هنا وإنْ مثّل مجازاً لما يعيشه الشاعر،قد غيروا قاموس فطرته وسلخوه منها ويتواقحون فيطلبوا منه أن يمثل لهم حياته التي سرقوها،وسيصبح موته محور أحاديثهم ،وأفعالهم،وسيبنون مما سرقوه من ترف فطرة الشمس فيه،وجودهم الزائف.
اسمحوا لي أن أنتقل بكم للمقطع الأخير،واغفروا لي أرجوكم،لأني سأقرأه بطريقةٍ أخرى،أحبها،بأن تبدأ بالكلام الذي أدهشك ومن خلال توركك اللذيذ لما أدهشك تفك رموز باقي كلام المقطع.
“حين تُطرّز أيّامك بخيوط البلاغة”
ظننتُ للوهلة الأولى أنّ كلمة “تُطرّز” هنا،جاءت في غير محلّها،و أنه لو وضع كلمة “تحيك” لاستقام المعنى،لكن تبيّن لي،أنّ العلاقة بين “خيوط البلاغة” و”بتفاصيل كذباتك”،هي التي وضعت فعل “تطرز” في مكانه،لأنه يشبه عملية تلميع النحاس ليخدع الناظر إليه،لذلك فإن كلمة”تحيك”لا تصح هنا،لأنها ستقلب المعنى تماماً،فكلمة”تطرز”تدل على أنه إنسان له وجوده وعالمه الخاص به وأنّ عالمه هذا،لا يثير انتباه أحدٍ إليه،فهو حين يطرز أيامه بخيوط البلاغة يحاول أن يعطي حياته وجوداً زائفاً لا يملكه،لكن لو وضعنا كلمة “تحيك”فهذا معناه أنه لا يملك شيئاً،وأن وجوده كشخص هو وجود زائف،وأنه يوجِد نفسه حين يُحيكها بخيوط البلاغة،وتفاصيل كذباته.
إنك حين تطرز أيامك بخيوط سيقرؤك الناس من خلال خيوط البلاغة تلك،التي طرزت بها وجودك الزائف،وسيمنحون وجودك الزائف هذا،وجوداً أصيلاً،لم تنتبه إليه أنت،ولم تطرّزه أصلاً،ولكنهم بذلك، يُكسبون أنفسهم،بظنّهم،وجوداً أصيلاً،من خلال وجودك الزائف،لماذا؟ لأنهم ”
“يوصون أولادهم
بالعودة إلى منازلهم
قبل الضوء الأخير”
قبل الضوء الأخير وليس بعده،لأن هذا الضوء سيكشفهم،ويقعون في فراغهم،وتضيع جهودهم الزائفة في إيجاد وجودهم الزائف،وسيضطرهم الضوء،أن يبحثوا عن غيرك،من يطرز أيامه بخيوط البلاغة،ليستمر فعل التطريز،ويستمر بذلك وجود من يخافون من الضوء،ولن ينتبه أحدٌ إليك،أنت،كإنسانٍ له وجوده الأصيل قبل أن يضطرّ إلى تطريزه بخيوط البلاغة.

عن شباب بوست

انظر ايضا

لأنَّني متعبٌ سأفكِّرُ بالجنَّة

لأنَّني متعبٌ سأفكِّرُ بالجنَّة

لأنَّني متعبٌ سأفكِّرُ بالجنَّة أهجرُ قصري الذي من ألماس آخد حوريَّاتي إلى النهر نسبح في …