قراءة في المجموعة القصصية-نصف ساعة احتضار-

للكاتب مصطفى تاج الدين الموسى[1]

بقلم: د.يسرى السعيد

حين قرأت عنوان المجموعة القصصية -نصف ساعة احتضار- توقفت عند العنوان ؛ فقد استفز لدي تجربة الموت، فمما يراودني منذ زمن أن أخوض مثل هذه التجربة، ونصف ساعة احتضار تبدو كأنها ستقربني من حلمي، ومن خلال قراءتي لها أدركت أنني وضعت نفسي في مواجهة الصور المتلاحقة والمتعددة للموت، لكن المذهل حقاً أن مصطفى تاج الدين الموسى يبحر من خلال مجموعته القصصية الجديدة، وعبر تسع عشر قصة إلى عالم آخر، لا يقل دهشة وغرابة وفضول من العالم الآخر الذي لانعرف عنه شيئاً.

تتنقل شخصيات مجموعته بين الحاضرة في الواقع المعاش والغائبة في عالم آخر بتسلسل جميل وموجع بآن. وربما تكون مجموعة مصطفى من الوثائق الهامة لانهيار الروح في زمن الحرب، وتداعياتها، فهو يصف وبدقة طبيب نفسي، أو محترف في قراءة الروح ماآلت إليه تلك الروح في زمن الحرب الرجيم؛ ففي قصة (أثناء الأخبار العاجلة): تقرأ الحزن المغمور بثواني لحظاتك، لن تنهي القصة دون أن تذرف دمعةً أو دمعتين على تلك المرأة التي ما كانت لتعير انتباهها لتلك المذيعة البلهاء لأن القدر هو من أصم أذنيها بطلقة طائشة!!

ويستوقفك مصطفى بسخريته المحببة عند أيام الرفاق البعثيين واجتماعاتهم؛ ليعنون احدى قصص مجموعته(اجتماعات حزبية خطيرة): فبين عائشة الزوجة المخدوعة، ورفيقة الجسد رنا تكتب آخر مستجدات الحزب!!

وأنت تقرأ مجموعة مصطفى تاج الدين الموسى  لن تكون أمام نصف ساعة احتضار فقط، كما اختار لها هو ذلك العنوان؛ لأنها كانت ساعات من الاحتضار البطيء تلك التي ربطتني قصص تلك المجموعة، فمصطفى كاتب قادر أن يؤطرك داخل عناوينه، دون أن تكون راغباً بالابتعاد عن تلك العناوين أو مغادرتها!!

وتحاول احدى بطلات المجموعة أن تلخص زمن الحرب بالتساؤلات التالية:

” هل تفكر في الموت مثلي؟ هل تطاردك في نومك كوابيس معتمة؟ الموت يعيش في خيالي، وأنا أيضاً أعيش في خيال الموت!”، هي جملة أسئلة طرحتها الشابة نسرين على رجل اختارته لينسيها خوف الحرب، في قصة التمثال التي ستحيل كل أبطالها إلى تماثيل مكسرة على بلاط الاسى والألم دون أن يمر الكاتب بتفاصيل تعيشها الشخصيات في وقت الحرب وتتراوح انفعالات تلك الشخصيات مع أجواء الحرب كلٍ وفق درجة إنسانيته ربما، أو وفق درجة شهواته ونزواته حيناً آخر!!

ولايغفل الكاتب ببراعة قلمه ان ينقل لك صورة أهم مفرزات الحرب وجلاديها، بل، وعزرائيلها الجديد، ونقصد بذلك القناص؛ ففي القصة التي حملت ذات الاسم وبلغته الممزوجة بالألم والسخرية والإبداع يقدم  مصطفى ملامح تلك الشخصية التي تأخذ دور قابض الأرواح الذي يشحذ ابتسامته على طرف بندقيه اللعينة التي تروي ظمأها بدورها من دماء الضحايا الذين يتساقطون تحت رحمتها، وقد اختار الكاتب تلك البيئة الخاصة بقصصه، ولا ننكر سوداوية هذه البيئة، لكننا ندرك مبرراتها، وكأنه يريد أن يقول لك: لا ابيض في مكان الحرب، إلا أكفان القتلى أو الشهداء!!

سينير الكاتب في عقولنا زوايا تأملية واسعة، تطرح جملة من الأسئلة الوجودية بصيغة أدب فلسفية راقية، تمسك بالقضايا الكبرى من كتفها وتهزها بجملة من التساؤلات والمعطيات التي لن تجد لها جواباً:

“لماذا يأخذنا الله باكراً تاركاً أمهاتنا ثكالى؟! قبل إن ندفع لهن ثمن حليبهن سعادة؟!

وبخيال كاتب حر سيعبر مصطفى تاج الدين الموسى إلى ضفاف ألبسها بحروفه لون المرار والخيبة، ففي قصصه  تترنح الشخصيات بين ماضيها الذي صنعته، وبين حاضرها الذي قاسته، وبين المستقبل الذي فقدته، فانتحار أحد أبطال قصصه بربطة عنقٍ كانت لديه تساوي كل مواقف الرحمة في العالم لهو سفر مع العمق الإنساني الذي ربما وان صحا إلا أن صحوته هي طلقة الرحمة الأخيرة!!

جمالية المجموعة أنها مزيج بين الأدب والفلسفة العميقة والقراءة الروحية للشخصيات، وطرح مفاهيم لن تشك للحظة أن الكاتب ابتكرها كنسيج داعم بنى من خلاله كل مفردات القصص، وكل ذلك بنكهة ساخرة موجعة تجعلك قاب قوسين أو أدنى من القهر، مرة على مايحدث في زمن السواد ونقصد به الحرب، ومرة على ما تتركه تلك الأحداث من اثر علينا.

الشخصيات عند الكاتب هي شخصيات احترفت التعايش مع الحرب، لانها حكمت بقوانينه.

ومن جماليات المجموعة طرحها لمفاهيم جريئة تسجل باسم الكاتب ولأول مرة، فأنت ستمتع سمعك بمصطلحات ستغني فكرك، بل، وستشعل فتيل الرغبة في التأمل:

في قصته- كم هم لطفاء -، كتب مصطفى العبارة التالية:” منذ الطفولة وأنا أشعر بأن الله لا يؤمن بي”،  هنا تتجلى حكمة الفيلسوف، بل هنا تلمع الحروف بعبارات لن تنتهي علاقتك بها بنهاية قراءتها.

كتب مصطفى تاج الدين الموسى مجموعته بقلم كاتب، وروح شاعر وعقل فيلسوف، وبمهارة محلل نفسي استطاع عبر عرض مكنونات شخصياته أن يلج النفس الإنسانية من أعمق زواياها، وهذا طبعا أثناء الحرب التي رسمها كما هي، حيناً، أو كما بدت له من منظار الأديب حيناً آخر، دون أن يترك للقارئ مسافة كبيرة للتأمل، حتى أن القارئ يشعر أنه معلقاً بين ثنايا الحرف، متفاعلا ومتأثرا بالشخصيات، مسقطاً عليها تجاربه أيضا.

الزمن اذن هو زمن الحرب، أو لنقل زمن الخيبة، والشخصيات موزعة بين الشباب والأطفال والكهولة، والمرأة في مجموعته هي العاشقة، وهي المحبة، وهي التي نسجت معاناتها بخيوط الرهافة والجمال، ولا يخفى الكاتب مكرها الجميل المحبب، حيناً، وذلك باسلوبه الساخر الذي سيزرع ابتسامة على شفاهك عند بعض المواقف بنفس القدرة لدى الكاتب على جعل دموعك تنهمر في مواقف أخرى .

المجموعة القصصية-نصف ساعة احتضار-هي سجل مؤرشف للحرب، وللحب والقهر والألم في ذلك الزمن الذي بثه مصطفى بكل ابداع وتميز.

 

 

[1]مصطفى تاج الدين الموسى: تخرج من كلية الإعلام/جامعة دمشق، من مواليد سورية(1981) .

ــ. حاز العديد من الجوائز الأدبية وترجمتْ عدة قصص له إلى الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والفارسية والألمانية ،وكتب عن قصصه ومجموعاته القصصيّة العديد من المقالات و الدراسات.

(قبو رطب لثلاثة رسامين) تضم 12 قصة قصيرة, في طبعتين:

أــ الطبعة الأولى في الإمارات عن دائرة الثقافة في حكومة الشارقة (2012).

بـ ـ الطبعة الثانية عن دار نون في سوريا (2013).

2 ــ ( مزهرية من مجزرة ) تضم 80 قصة قصيرة جداً وقصة قصيرة ونصاً قصصياً ،عن دار بيت المواطن للنشر والتوزيع ،الرابطة السوريّة للمواطنة ــ بيروت ضمن السلسلة الأدبيّة الشهريّة ( شهادات سوريّة) العدد السابع (2014).

3ــ ( الخوف في منتصف حقلٍ واسع ) تضم 99 قصة قصيرة وقصة قصيرة جداً ،عن دار المتوسط في نابولي ،إيطاليا. بالتعاون مع جائزة المزرعة (2015).

4ــ ( نصف ساعة احتضار ) تضم 19 قصة قصيرة ،عن دار روايات الإماراتيّة (2016).

 

 

عن شباب بوست

اترك تعليقاً