فايز العباس
فايز العباس

كم ميتة في العمر يألفُها الفتى ؟!

فايز العباس

لم أخف من الموت يومًا،

أقول لها وأنا أقصُّ عليها حكاية كي تنام في سلام، فالموت فكرتنا عن الغياب،

أمسّد على شعرها، وأتفنن في لم الشامات عن جسدها الغض، وأبدأ سرد سيرتي الطويلة منذ أول الخلق،

سيرتي التي بنيتها مثلما تبني حمامةٌ عشّها قشّةً قشّة، غير أني استبدلت أعواد القشِّ بما تيسر لي من ميتات كثيرة،

وكان هاجسي الوحيد أن تنام، بينما تتمسك بي كي لا أغادرها مجددا بعدما استطاعت أن تمسك يدي/يدَ الموت العظيمة الكبيرة:

أذكر أني متُّ كثيرا، غير أن تلك هي المرة الأشد قسوة حتى الآن…

كانت ميتتي الأولى حين علمني غراب كيف أحفر قبرًا بحجم أخي، وقتها كنت غِرّا لاتستهويني لعبةُ الموت، ولا أجيدها، غير أني سرعان ما تعلمتُها وصرتُ تلميذًا مجتهدًا، ولازلت -حتى الأبد- أدين للغراب الخبير بدفن الأشقاء، ودفع الخطايا إلى جوف أمنا الأرض،

وفي حين يدبّج الشعراء قصائدهم في المراثي، أحوم أنا حول القبور وأجهش بالنحيب.

وأذكر ترددي في الموت لولا أني استطعته واجتزت الطوفان العظيم بمفردي، الطوفان الذي حمل السفينة من الغرق إلى شاطئ الموت الكبير،

وبين ميتة تعصمني من البحر وأخرى تساوي بيني وبين السمك يتشظى القلب، وتفلت الضواري من كتب التاريخ البعيد، أستطيع أن أجلس الآن على تلّة الحياة وأستمتع بمشاهدة الفخاخ والأنياب والمخالب،

وأيضًا من ذات التلّة أراني ميتًا بكامل أناقتي مرميًّا على شاشات العالم الصامت،

صارخًا بكل العبثية الرديئة؛ قل للطفل الذي نجا من السمك: سيصطادك الرمل فلا تخف، وسنتبعك. وأذكر الموت الذي اعتراني حين رميتُ في النار من تجرأ على كسر أصنامي المقدسة، النار التي لاتزال مذ ذاك تلتهم الفراشات وستستمر بمهنتها حتى آخر الضوء.

قال لي أبي مرارًا: “ما دامها خضراء لن تيبس”، وحين اشتد عود قلبي وصار اليباس يمشي بروحي بدأت أبحث عن الأخضر في ما تبقى مني لأراقب الموت وهو يسير مثل البنج في الأوصال.

وأذكر كيف تعرّف الموت عليّ حين أولمتُ للصليب المحبةَ بحفنة دراهم، المحبة التي قُتل باسمها كل الذين تعاهدوا على الحب، وكل الذين آمنوا بمنح الخد الأيسر لمن صفعهم، واعتادوا على منح ضعفهم وسام التسامح، ووصم الصافع بالظالم،

ربما يجدر أن نتساءل على سبيل التهكم: من وزع الأدوار في هذا المسرح الكبير؟!

ومتُّ حين طعنت ابن عمي، ولم أصح به: التفتْ كي أبارزك،

كان قد منحني ظهره فمنحته ثغرة ليتحرر من خلالها الدم من سجن الجسد،

تلمست دمه الساخن وبكيت عليَّ كثيرًا، وقتها لم تكن فكرة “أنا وابن عمي على الغريب” قد نضجت،

كنت أنا وأناي على ابن عمي، ومنها اقتبس العالم حكمته “أُكلتُ حين أُكل الثور الأبيض”.

وكان الموت حليفي وغريمي حين لوّحت بالقميص بدل الكفّ النظيفة،

وحين اتهمت الذئب بدم المغيَّب في الجبِّ، وبين قميصين كان إبصار نبيٍّ وفتوى اقتتال الطوائف،

وحين صفقت للموت وهو يطوف كما الحلم بين البيوت، الحلم الذي انهار كسقف، مما أحال البيوت مقابر جماعية لمن ناموا حالمين بغد قد يجيء.

وحين استبدلت الموت بالموت في تجارة خاسرة، وقلت: أدفع موتي بموت الذين يريدون قتلي.

ضغطتُ على زناد قناصتي ومتُّ،

ولوحتُ للقناص بوردةٍ ومتُّ،

ورفعتُ الأنقاض عن طفلة ومتُّ،

ونزحت من مدينتي فمتُّ،

وعانقت الأحبة في مشهد الوداع ومتُّ،

وعبرتُ الحدود ومتُّ،

وأصبحت لاجئًا ميتًا من فرط المذلة والخوف والذكريات.

أذكر أني متُّ كثيرًا… ولكنني لم أتألم سوى في ميتتي تلك؛ حيث استنجدتِ بي فلم أقدر أن أموت عنك.

هل نمتِ يا حبيبتي؟

– متُّ كثيرًا ولم أنمْ.

 

*نص منشور في موقع آلترا صوت.

عن العباس

انظر ايضا

روسيا والأسد يجندان شباب القامشلي للقتال إلى جانب حفتر ليبيا

روسيا والأسد يجندان شباب القامشلي للقتال إلى جانب حفتر ليبيا

شرعت مخابرات نظام الأسد مؤخرا بتجنيد شبان من منطقة القامشلي للعمل كمرتزقة يقاتلون إلى جانب قوات "خليفة حفتر" في ليبيا برعاية روسية.

جريمة بشعة ومقززة بتفاصيلها تهز أركان المجتمع في المناطق “المحررة” بالتزامن مع القصف الهمجي والوحشي

مؤيد اسكيف أ قدم شبان على اغتصاب وتعذيب وقتل المربية والآنسة سوزان ديركريكور من أهالي …

تل براك بين الحاضر والماضي

تقع تل براك في شمالي شرق سوريا حيث تقع غربي نهر جقجق أحد روافد نهر …

اترك تعليقاً